saidi.samir89@gmail.com
أن يحب شاب أسود فتاة بيضاء فهذه ظاهرة موجودة بالفعل، وأن تقع شابة بيضاء ناضجة
في غرام شاب أسود فهذا أيضا أمر موجود لا يمكن نفيه، لكن الحواجز التي وضعتها الثقافة
والاعراف في الواحات تمنع الاختلاط وتحقيق الزواج في الغالب، مخافة أن يختفي التمايز
وتذوب الاثنية العليا في الدنيا وتقع المصيبة، ويقصد بذلك مصيبة موت الاثنية العليا
وكأن ذلك يعني موت الانسان وانتهاء الحياة على أديم الأرض.
إن الثقافة غبية في كثير من مواقفها، لكنها قوية بشكل يجعلها قادرة على صناعة
إنسان جبان لا يستطيع إلا أن يدافع عنها بشراسة منقطعة النظير وكأنها إله مقدس.
نشأ "أسمر" في مجتمع قبلي يؤمن بالتفاوت بين البيض والسود، وكان حظه
ان يطبّع بأفكار تضع بني جلدته في موقع دوني في الوقت الذي وضعت فيه كل اصدقائه البيض
في موقع القمّة. وبذلك نشأ وفي تكوينه جانب مظلم من قيم احتقار الذات بسبب عطب وخلل
موجود في تركيبته الثقافية، وكان أسمر بسبب ذلك كثيرا ما يتعرض لمضايقات من طرف البيض
فينعتونه بالأسود تارة، وبالليلي تارة أخرى، كما أنهم عادة ما يقارنونه بنوع من الحشرات
السوداء القاتمة.. كل ذلك لأنه أسود البشرة، وسوادها يعني انتقاصا من آدمية صاحبها
من وجهة نظر الواحيين الجهلة.
بدا "أسمر" رغم كل هذه القيم العنصرية الموغلة في ذهنية الواحيين
وثقافتهم؛ فتى شديدا، بيد أن جانبا منه يجعله يحس دائما بالضعف، تحاول عائلته من موقعها
اقناعه بالتمسك بالقوة والدخول في معركة الهوية ضد ثقافة بيضاء لها إرث ضخم وممتد مع
العنصرية العرقية. لكن المجتمع الابيض ما انفك يخاطبه بلغة أخرى غير لغة الاعتزاز بالذات
عندما ترسم له جسده الأسود وهو محمل بأكياس من التبن، أو راكبا على بغلته السوداء؛
في يده اليمنى معول وفي الثانية منجل وفي قلبه المثقل بالمعاناة كآبة وحسرة، فالأسود
في الذهنية البيضاء لا يزال يختزل في ما تحمله يديه لا في يحمله ضميره وفكره من قيم ومعارف،
إن الثقافة البيضاء في الواحة ظالمة، وتجعل حياة الانسان الأسود صعبة وعسيرة، خصوصا
في القصور والقرى الجامدة.
بدا "أسمر" متشبعا بأفكار متناقضة تتصارع في رأسه الصغير وهو ابن
الثانية عشر ربيعا؛ لتجعله يفكر بشكل مختلف عن أقرانه، فهو عندما يتذكر أفكار عائلته؛
يصبح بشريا كغيره من بني البشر ولا شيء يمنعه من أن يعيش كريما وقويا دون إحساس باي
نقص، أما عندما يتذكر سخرية أصدقائه البيض من بشرته السوداء فإنه يصبح شخصا ناقصا ومعتلا
وكأنه خلق من مادة أقل جودة من المادة التي خلق منها الأبيض.
عادة ما يكون هذا الصراع محموما في رأسه داخل فضاء المدرسة وفي ميدان اللعب،
ففي سياقهما يصبح ضعيفا بالنظر لالتقائه بزمرة من أقرانه البيض والسود، فيلاحظ بأم
عينيه كيف أن بعض رجال التعليم أنفسهم يميلون إلى تقدير البيض والابتسام في وجوههم
- على خلاف السود - حيث تبذي نظراتهم إزاءهم الجفاء..وفي فضاء اللعب تعايش عن كثب مع
تعابير عنصرية لا يحس بتأثيراتها السلبية إلا الأطفال السود، خصوصا أن ما يميز هذه
المرحلة جانب من العفوية التي تجعل الطفل الأبيض يعيد إنتاج الأفكار التي تروج في الفضاءات
الخاصة (المنزل) فيطلق ألفاظا أو مواقف وتعابير عنصرية دون أن يعي حجم عنفها ونتائجها
الكارثية على سيكولوجية زملائه السود.
لايزال
الأسمر يحتفظ بهذه الذكريات المريرة، لا يزال يستحضر موقفا متعجرفا من "صديق"
أبيض عندما حاول اقتسام قطعة خبز معه، فامتنع الطفل الأبيض عن ذلك بدعوى أن والدته
حدرته من أكل خبز "الحراطين".
موقف الطفل الأبيض(هنا) كان بريئا
لكن الطفل للأسف سيكبر
لم يتعلم كيف يحترم جاره
لم يتعلم كيف يحب غيره
لم يتعلم كيف يحيا سعيدا مع سود القرية
الطفل الأبيض غدا اليوم رجلا
في ملامحه قوة، وفي قوته جهل وأنفة
في الجامعة تعلم
أكاذيب
عن الأديان والتاريخ والجغرافية
عاش حياته بأسرها في جحيم الأسر
من قيود
نسجتها الثقافة
مات وترك في وصيته
ما يجعل الحفيد بدوره يتعصب
للعرق، للغة،..للمجال وللاثنية
هي ثقافة فرعية لعينة
أنتجت إنسانا بقيم عنصرية
موقف الطفل الأبيض كان بريئا
لكن الطفل مع الأسف سيكبر
ويصبح فارسا بلسان سليط
يعيد انتاج
العنصرية...
لقد بدا للأسمر أن الطبيعة لم تكن منصفة عندما فرقت الناس إلى بيض وسود، وعندما
فضلت أولئك على هؤلاء، وأكثر ما جعله يصاب بحرقة الفؤاد عدم رغبة الفتيات البيض على
مجالسة الفتيان السود إلا فيما نذر، ووجود نوع من الحواجز والفواصل بين السود والبيض
داخل فضاء المدرسة. لكنه رغم ذلك نشأ وترعرع على أنفة وعلى حب الكرامة أكثر من أي شيء
آخر في الحياة..
نعم.. الكرامة هي التي تجعل الانسان الأسود أحيانا يدافع بشراسة عن لونه، محاولا
قدر جهده التأكيد عن طابع اللامساواة الثقافية والعرقية بسبب إرث تاريخي وثقافي مقيت،
فالثقافة البيضاء هي التي علمت الانسان الأبيض أن يحس بالتفوق على السود، بينما طبع
السود على كراهية أنفسهم منذ نعومة أظافرهم بسبب السخرية التي عادة ما تكون قاعدة اللعب
الاساسية لدى الأطفال. وهكذا ينشأ الطفل الأسود في الواحات محملا ببعض القيم التي
تجعله يحس بالنقص ، بينما ينشأ الفتى الأبيض وفي اعتقاده أنه أمسك بزمام الدنيا
وما فيها، وأن حظه أكبر بكثير من حظ ذلك الأسود -التعيس.
تعليقات
إرسال تعليق