التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الشعر الأمازيغي "باهبي ونماذج من أشعار أيت مرغاد"


يعتبر الشعر أو "تامديازت" الشكل الأكثر تعبيرا عن حياة الإنسان الأمازيغي وفلسفته في الحياة، الشيء الذي يكشف عن غنى هذا الشكل الأدبي شكلا وعلى مستوى المضمون أيضا، فقد عني الإمديازن أو الشعراء الأمازيغ عناية فائقة بتقديم قصائدهم بقالب جميل الشكل غزير المضمون، وقام التنافس على أشده ولم يقعد بين كبار الشعراء الأمازيغ في مختلف المناطق التي يستوطنوها، بل إن التنافس وصل حد التراشق بالكلمات المصقولة أمام الجماهير في الأعراس والاحتفالات الطقوسية وفي مختلف التجمعات القبلية الأخرى.

 ولعل عناية الإنسان الأمازيغي بالشعر مرتبط أشد الارتباط بما تختص به ثقافته المعروفة بغياب الكتابة، وبهيمنة منطق الشفهية في خطاباته وفي نقل تراث أجداده، وإبداع كلماته وصياغته ثقافته. فالمجتمع الأمازيغي مجتمع شفهي بامتياز، اعتمد على الكلام الشفهي لا على الكتابة والتدوين، فكان لزاما على شعره الذي يعتبر أكثر الأشكال الشفوية تعبيرا عن واقعه؛ أهم المداخل اللازم اعتمادها والتركيز عليها لفهم فلسفة حياة الإنسان الأمازيغي وثقافته، وقد عملنا في هذا الصدد على مقاربة الظاهرة ميدانيا عبر مقابلات ميدانية[1] تخللتها ملاحظات[2] تحليلية لتقريب الوضع واعتمدنا تحليل المحتوى[3] في عملنا هذا بغية فهم مغزى مضامين الأشعار وطبيعة الموضوعات التي شغلت بال الإنسان الأمازيغي.
وبما أن كل مقاربة ميدانية لابد لها من إطار نظري يوجهها ويرشدها نحو غايتها فإننا في هذا المحور لم نبقى أسيري الميدان، وإنما اعتمدنا على مجموعة من الدراسات التي اهتمت بالشعر الأمازيغي، فأخذنا منها ما يهمنا لنبني ونشيد هذا المحور الذي عني بتحليل مجموعة من أشعار "باهبي"[4]  ونموذجا من أشعار " آيت مرغاد"[5]
وقد خضع بناء هذا المحور للتنظيم التالي:
v   محاولة فهم السياق العام الذي اندرج فيه الشعر الأمازيغي ومدى تأثير هذا السياق على بنيته المضمونية.
v   عرض نماذج متنوعة من المواضيع التي شغلت بال الإنسان الأمازيغي من خلال اشتغالنا الميداني
v    أهم الخلاصات والاستنتاجات والتوصيات التي خرجت بها

                              I.            السياق العام للشعر الأمازيغي "نموذج واحة فركلة"
لا يمكننا القول في  هذا الصدد بأننا قد تمكنا من الإلمام بالسياق العام للشعر الأمازيغي محور الاشتغال، خصوصا عندما نكون على علم بان سياقاته متعددة  تبعا لاختلاف الجغرافية الثقافية التي يعبر عنها هذا الأسلوب الأدبي التعبيري، وبالتالي اقتصرنا في هذا العمل على اختيار مجتمع بحث من خلال الاشتغال على نموذجين للشعر الأمازيغي وهما نموذج شعر باهبي، ونموذج لأشعار آيت مرغاد، بواحة فركلة.
ترتبط أشعار باهبي بجماعة إقبليين الاثنية أو الحراطين، وهي فئة اجتماعية مقموعة داخل السياق الواحي الفركلي، عانت ظروفا مكفهرة ولم تحظى بمكانة اجتماعية مرموقة مقارنة مع باقي الجماعات الإثنية الأخرى، حيث كان الحراطين يمتهنون محتقر الأعمال في الماضي من فلح وخماسة وحرف أخرى حضيضية من منظور المجتمع، وقد أثرت هذه المكانة على صورة الانسان الحرطاني وكل ما يرتبط بثقافته داخل النسق الاجتماعي الفركلي.[6] وبالتالي أثر ذلك على إنتاجهم الشفهي والأدبي كما سنرى فيما بعد.
أما بخصوص جماعة آيت مرغاد فهي على العكس من ذلك، جماعة ذات تاريخ تليد بالواحة، اعتمدت الترحال وعرفت بقوتها وجبروتها وتميز تاريخها بصراعات عنيفة مع "آيت عطا" واستوطنوا مجموعة من قصور واحة فركلة انطلاقا من طردهم سكانها الأصليون منها وهي جماعة متقوقعة على ذاتها وأكثر واحات فركلة إحساسا بكبرياء الانتماء لإيديولوجيا الجد المشترك الذي قد يكون أولا يكون على حد تعبير ابن خلدون.
إن هذا السياق الذي عرضناه باقتضاب قد أثر بحق في مضمون أشعار الجماعتين ورغم أن هناك أوجها كثيرة من التشابه بين أشعارهما؛ إلا أن الاختلاف يبدو جليا في الإيقاع، إذ نجد أشعار "باهبي" في كنهها تعالج الأسى والحزن وإيقاعها يلفها الاحتراق والمعاناة حتى ولو أنشدت في حفلات الزفاف ومناسبات الأفراح.
أما ايقاعات أشعار أيت مرغاد فتتراوح بين الفرح والأسى، موازاة مع طبيعة الموضوع الذي عنيت به.
نماذج من الأشعار التي شغلت بال الإنسان الأمازيغي بفركلة
أ‌-      المرأة في الشعر الأمازيغي الفركلي
إن الملاحظ المتأمل في بنية الشعر الأمازيغي يكتشف نموذجين بخصوص حضور المرأة فيه، النموذج الأول؛ يتجلى في صورة المرأة من وجهة نظر الشاعر"النشاد" الذي يعكس تصور مجتمعه الذكوري حول المرأة،  بينما النموذج الثاني يتجلى في المرأة وإبداعها الشعري، فصورة المرأة عموما في الشعر الأمازيغي صورة هامشية في ظل نسق ذكوري ويبدو أن هناك تأثرا متوارثا في صورة المرأة في الأسطورة كونها لا تفي بعهودها " أسطورة الأسد والمرأة"[7]. فالمرأة نموذج الثعلب الماكر كما تحكي قصيدة "الشاعر التغفرتي" حول " تاقنوشت " والتي عكست في مضمونها كيف تنقلب الفتاة الجميلة المحتشمة والمتواضعة من هذه الصورة المثالية بعد زواجها وانجابها للأطفال؛ إلى متعجرفة تفرق بين الإخوة داخل الأسرة المركبة أو الممتدة، وتشتت بالتالي البنية الأسرية القديمة القائمة على التضامن والتعاون، فالأبناء يمنحون التفوق للمرأة ولا يستطيع الزوج الطلاق منها بسهولة، لهذا فهي التي تتحكم فيه بعد الإنجاب بعدما كان هو المتحكم فيها قبل الإنجاب. يقول الشاعر التغفرتي:
Bien sur tafonast iktstfar
 tghla iwsbab
وقد شبه "الشاعر التغفرتي" المرأة في هذه القصيدة بالبقرة الحلوب التي لا يستطيع الفلاح بيعها في هذه الحالة ، وقد استمل في هذا المقطع الاقتراض اللغوي حيث وظف ‘’bien sur’’ وهي كلمة فرنسية تفيد التأكيد على الشيء.
بخصوص النموذج الثاني فيتجلى في إنتاج المرأة للشعر؛ وهو بالمناسبة إنتاج غزير، فالمرأة الفركلية أبدعت شعرا في حقول عديدة كالسياسة والعلاقات الاجتماعية ..وأثناء مزاولتها لأعمالها القاسية في الحقول والفيافي.
ويمثل التحطيب جانبا من انتاج المرأة الأمازيغية للأشعار فمن خلال المعاناة البيولوجية والسيكولوجية التي تواجهها المرأة في عملية جمع مادة الحطب في وقت من الأوقات أبدعت لهذا العذاب الذي فرضته الطبيعة والظروف، شعرا يحمل في كنهه غزارة المعاني وبلاغة الكلمات، ويمكن القول بناء على ذلك بأن شعر المرأة الأمازيغية هو تعبير عن حياتها داخل نسق ذكوري بامتياز..
لقد كان الحطب مادة حيوية في مجتمع فركلي ساكن لا وقود فيه ولا غاز. وكانت مهمة التحطب رهينة بالنساء، فهن مطالبات بقطع المسافات للتزود بالمادة، وعادة ما يذهبن في رحلتهن الخرافية على شكل مجموعات، التحاما ضد الوحيش وضد قساوة الظروف المرافقة لفعل التحطب.
اندرج "التحطب" كحاجة حيوية أملتها الظروف وقتداك، ففي ظل محدودية وسائل الإنتاج، وستاتيكية المجال الفركلي، تضطر النساء للخروج إلى الفيافي في أوقات مبكرة جدا لهذا الغرض؛ إذ تستحيل الحياة بدون الحطب، فبه يتم طهي الطعام..ما يؤكد على الوظيفة الحيوية لهذه المادة وكذا الحيوية التي تحتلها النساء المعنيات بالبحث عن هذه المادة .
لقد أكسبت العادة هذه النساء قدرة كبيرة على التحمل والكد بخاطر مرتاح وصدر رحب، هذا ما عكسته الأشعار التي تتلى في رحلة التحطب؛ كما يشير هذا البيت المحلي :
« alm3awnt ten rbbi *** alm3awnt arakmed »
ترجمة مضمون البيت:
شد العضد إعانة ربانية   يا رب ارزقنا القوة
إن حضور المقدس وطلب المساعدة الإلهية في عمل النساء حاضر بقوة؛ ما يدل على ايمان نساء هذا المجال بالقدرة الإلهية التي ستكسبهن طاقة وقوة وإعانة لهن في أشغالهن. ويردد هذا المقطع عادة أثناء التحطيب.
أما المقطع التالي:
« ayazwo adure-tsdidiyt
agato geght yad iykcheden »
لا تهددي يا رياح استقرار ذخيرتي
 فقد وضعت الحبل على حزمتي
هذا البيت يردد كلما باشرت النساء بحمل ما حصلنه من حطب - على شكل كتلة مستطيلة الشكل (طويلة وثقيلة)؛ فيشير إلى حالة سيكولوجية بالأساس، يتجلى في مطالبتهن اللاشعورية الرياح بالهدوء والسكينة، مادام الحبل محاطا بالحطب، وبالتالي انتهاء مهمة التحطيب، وبداية مهمة حمل ما حصلنه على ظهورهن لمسافات طويلة، قد تصل إلى عشرين كيلومترا وزيادة، تتخللها أوقات استراحة، لأكل التمر وشرب اللبن.. كما تحكي عائشة.[8] وطوال هذه الرحلة تتنكب النسوة عن كل ألامهن ومعاناتهن ؛ بالكلام والتنكيت والضحك أحيانا وأحيانا أخرى بالأهازيج التي يعكس جوهرها الألم النسائي والفركلي !.. وعندما يقتربن من باب قصورهن فإنهن يرددن عادة البيت التالي :
a7n mays numdhouch
i9iman gumrdul
الترجمة
الويل الويل لام الضعيف
سيترك وحيدا في الخلاء مع الوحيش
عندما تردد هذه العبارة السالفة الذكر، تجتاح الطاقة من جديد الأجساد النسائية العليلة، وتزرع في نفوسهن طاقة أقوى لحمل أثقال الحطب، و أثقال المجتمع الفركلي المندثر، فتتسارع النساء وتتسابقن لصدارة من يصل أولا الى باب القصر، ففي ذلك رمز للكاريزما والقوة النسائية العتيدة ..ولا ترضى أي امرأة أن تكون متأخرة فذاك لا يسوء فقط إلى سمعتها بل إلى سمعة عائلتها وأبنائها، فالأم الضعيفة ستنجب بالضرورة أبناء ضعاف، والأم البطلة أبناؤها بالضرورة أبطال...
ويتميز الشعر في سياق ظروف الكد والجد النسائي بإنتاج المرأة لمجموعة من القصائد المعبرة عن عمق المعاناة التي تعيشها من خلال ما تمتهنه من أعمال ويمكن التمييز في هذا الصدد بين الأشعار التي تنشد خارج فضاء المنزل ( التحطيب، الحش، الحصاد، جمع التمر ..) وبين تلك التي تنشد داخل فضاء المنزل ( البكور ... كما سنرى مع أشعار أيت مرغاد فيما بعد )
أشعار باهبي: مدخل لفهم ثقافة حراطين فركلة
كتبت في إحدى مقالاتي المنشورة على جريدة إلكترونية[9] مقالا مضحكا مبكيا تحدثت فيه بنوع من التحسر والأسى البالغ عن  مصير شعر باهبي وعنونت المقال كالتالي " باهبي أو الإرث المهدد بالفناء" وعرضت فيه جانب من هذا الشعر الذي يتميز بغزارة المعاني وجمالية الشكل وروعة الأداء والطريقة التي يغنى بها في مختلف الاحتفالات ومناحي الحياة بواحة فركلة[10]. وقد كان لي أن أجريت بعض المقابلات مع وجوه تحترف هذا الشعر وتردده في محافل خاصة وناذرة، فالهم إلي خاطري حينذاك بضرورة الاشتغال على هذا المتن، والعمل على حفظه خصوصا وأنه يندرج في نظري ضمن الفنون المقموعة المهددة بالموت الزؤام، في ظل تنامي الثورة التكنولوجية وهيمنة منطق استهلاك الإنتاج الثقافي البراني وضعف الإيمان بأهمية الإرث الشفهي المحلي. وجاءت الصدفة أن أحييت الأمل في مشروع إحياء شعر باهبي بفضل هذا العمل؛ وأتمنى صادقا أن أوفق في عرض جانب من هذا الشعر الزاخر الذي لا يمكن الإحاطة به جملة وتفصيلا، نظرا لتعدد الجوانب التي عالجها والمرتبطة بسياق اجتماعي له خصوصياته التي دكرنا بعضها سابقا.
لقد اندرج شعر باهبي كفن من الفنون الغنائية الواحية التي تنهل من التراث الواحي، تناقلته ألسن الخلف منقوصة غير مكتملة من السلف فضاع منه ما ضاع وتبقى منه ما تبقى وهو حاليا على شفا حفرة من الموت الزؤام، باهبي أو الإرث الشفهي المهدد بالفناء؛ يعتبر في نظري من أهم المداخل اللازم اعتمادها لفهم تاريخ وفلسفة حياة الإنسان الحرطاني بواحة فركلة، الذي عاش ظروفا ضنكاء بسبب المكانة الهامشية التي احتلها داخل هذا الجسد الاجتماعي العليل.
جاء فن باهبي كأسلوب شفهي راق في التعبير عن الواقع ليعبر عن حياة الواحة عموما وواقع جماعة إقبليين الإثنية على وجه الخصوص، داخل نسق قبلي انطوائي متقوقع على ذاته، تتغنى جماعاته الإثنية بماضيها التليد، ولم يكن باهبي حينذاك إلا تعبيرا عن الهوية الحرطانية في تفاعلاتها وعلاقاتها الاجتماعية ومجمل تفاصيل حياتها داخل المجال الفركلي، وسأحاول أن أعرض في هذا المحور مظهرا من مظاهر شعر باهبي وتجلياته وأهم مظاهره الكاشفة لوقائع تاريخية راسخة؛ منها ما هو طريف وظريف ومنها ما هو مكفهر وعنيف.
تجسد مناظرة "إيطو إبراهيم" ضد "حا أولكوض" جانبا من الطريف الظريف وتقول الروايات الشفهية بأن "حا أولكوض" معروف عنه أن شاعر من العيار الثقيل يجيد اللعب بالكلمات وهو خصم عتيد في المناظرات، وكان أن تجرأ وقصد الحسناء الجميلة "إيطو براهيم" لطلب يدها من ذويها، مع العلم أن إيطو براهيم كانت أن رفضت لعشر شباب قبله عرض زواج ، وكانت أن رفعت الإيقاع إلى مداه فرفضت طلب " حا أولكوض والذي من موقعه وبعزة الرجال وكبريائهم لم يبقى أسير الهزيمة فأبدع لهذا الغرض شعرا جميل الشكل غزير المضمون وقد جاء في مقتطف منه:
ياكوف بوكجدي إوروا رناون إسردان خوطناك أيتيزار
 هانروا ك لان عشرة نكين أتنفغ أرديكسن أموغ
ترجمة المضمون:
لقد اقتلع العماد الذي ينظم للدواب حركيتها في عملية الحصاد ويمنع بالتالي عشوائية سير الحصاد..
لا يمكنني أبدا أن أشارك في حصاد غير منظم شارك فيه عشرة ذكور..
وقد أعلن بذلك حا أولكوض أنه لا يرغب بفتاة كان ان قصدها عشرة ذكور أقل شأنا من ضعيف الرجال فما بالك به وهو أفضل الرجال دهاء وأكثرهم قوة بالمنطقة.
وردت عليه إيطو براهيم فأنشدت:
أيركاز إتاغ لعار
وادايلا القاويل
إماريغ أتصاحب أزو
نك أكارمود
أينا كنهوا
إبرمد نونب أفنانو
الترجمة :
يا رجل.. لما تفهمني خطأ
تراخيت فوجدت فرصة لانتقادي
أنا لا أعيبك أنت
لكن عائلتك لا تلائمني
هكذا "فإطوا براهيم" قد أعلنت "لحا أولكوض" أنها لم ترفضه هو وإنما عائلته السبب في رفض طلبه.
لعل شعر باهبي غير مقتصر على هذا الجانب فقد كان نافذة حرة للتعبير عن كنه الحياة بفركلة، ومن خلال مضامين هذا الشاعر تتضح طبيعة العلاقات الإجتماعية السائدة بفركلة قديما وحديثا، وقد جاء في مقابلات علمية أجريناها في هذا الصدد أن المناظرات كانت السمة المميزة لباهبي العلاقات الإجتماعية كما أن هناك من يستغل هذا الفن الجميل والمرغوب بتمرير رسائله وقضاء حوائجه أو الاستفادة من امتيازات ونجد نموذج ذلك في ما وقع لأحد الشعراء بقصر أسرير في مناظرة له مع شاعر آخر، وكان أن أنشد ما يلي:
مبارك أعزا قيم ساكان
أيريغ أكحررغ أرساكحنادجاغ
نيغ سيبرط إنو أرحناجاغ إيفيلان أديكملن أزار
الترجمة:
يا مبارك أعزا اجلس مكانك
لست بعد في حاجة إليك
لدي مؤهلاتي ومقوماتي الخاصة
ولا أحتاج إلى من يساندي ف مهمة الدفاع عن نفسي
يكشف مضمون هذه المقطع عن أهمية التباهي بشعر باهبي وامتلاك خصائصه الفنية والجمالية والموضوعية، فالجمالية في الشكل شرط لقبوله اجتماعيا، كما أن غزارة المعاني والمضامين شرط لإسكات الخصوم، فكانت هذه الخاصية بمثابة منبر فتح باب المنافسة أمام مجموعة من الشعراء خصصوا وقتهم لإبداع الكلمات وصقلها وإغنائها بمضامين غزيرة تنهل من التراث الواحي الفركلي، عبر استخدام مفاهيم ومصطلحات محلية " بوكجدي "تسردال" إفرخان"...
سبحان مولانا ناغ ديكان ايكوسيفن
إعدماغ رزق نغ
هانقبوا أرتوسين وامان
أداغحيوا ربي أرتاروا
الترجمة
سبحان الله الذي خلق المطر
وأفسد لنا رزقنا فوق أشجار النخيل " التمر"
الحمد لله لأن المطر لم يحمل معه إلا التمر وترك لنا النخلة
سننتظر العام المقبل لأنها ستثمر حينها أكثر وستزدهر
يركز باهبي على المعاني والدلالات والرمز عبر استعمال الاستعارات والتشابيه وإقامة المقارنات
وكنموذج للمعاني :
صلى الله على محمد
أيديكان أمزوارو نووال
نتا أيديكان أم الصابون
أريسيريد بلا تيغبولا
أبوتوغمست إتركيكين
إغمدان إكاكيلا أوسافار
تدا توغمست ليغ سنتهضار
إبدلي واوال كيمي
وكيد أحميل أكجوجيغ
كغاك أينا كيلم الرااي
إنايين بو تالكتوبين
أداكاروغ ميكاكيجرا كا
أنيغ كاختجرا
إغدراغ أغذار أرهاطيي
الترجمة:
صلى الله على سيدنا محمد
فاتحة القول يا سادة
هو كالصابون للثوب النجس
يغسله ولا يترك فيه الأدران والأوساخ
يا صاحب الضرسة المتدبدبة
في الكلاب علاجك
لقد رحلة تلك السن التي كنا نلهو بها في الماضي
وتغيرت معها نبرة صوتي
كن لي سندا لي
أعينك في التخلص من ضنكك وضيقك
أما بخصوص المعنى الذي تحمله القصيدة فغزير وفضفاض ومن بين المعاني التي يحملها مثلا رسالة إلى الرجال الذين يعيشون مع زوجات لا شخصية لهن ولا مبادئ؛ يأمرهم بتطليقهن كحل لهم مما قد سيعانونه معهن. وتم بذلك استعارة الضرسة المتدبدبة محل المرأة المتدبدبة، والكلاب كتعبير عن الطلاق واعتبره علاجا لهذه الحياة المشؤومة، لأن المرأة المتدبدبة لا يمكنها أن تحقق السعادة الأسرية، والتي هي أساس مكانة العائلة، وحفظ ماء وجهها داخل القبيلة.
1-   للانموذج لأشعار آيت مرغاد
يعتبر شعر "آيت مرغاد" معقدا وغامضا على حد تعبير إميل لاووست Emil Laoust[11]،  ويبدو أن أسلوب التراكيب في شعرهم حسب أحمد حداشي يتميز بمستوى عال في فنيته حيث يعتمد أساسا على الصورة والرمز والاستعارة والإيحاء، فضلا عن التشبيه وصيغ المبالغة الموظفة قصدا. ويعد كل بيت من الشعر لايحترم هذه المعايير دون مستوى الشعر ويصنف بالتالي ركيكا أو رديئا ولا يعترف به شعرا ولا بصاحبه شاعرا.[12]
وتتكون أشعار "ايت مرغاد" من أوزان وإيقاعات متعددة تنشد بألحان كثيرة أيضا، فمنها القصائد الطويلة وتسمى "تامديازت" والمجموع "تيمديازين"، والتي قد تصل عدد الأبيات فيها إلى المئات، وهناك أشعار يتم ترديدها أثناء جني المحاصيل الزراعية، ومنها الخاصة بموسم من المواسم، كما توجد أصناف خاصة بالأشعار الدينية والتي تقترب من التصوف، على أن الأرجح هو ارتباطها بالحياة اليومية لساكنة الواحات أو الجبال، خصوصا أثناء المناسبات العائلية عرس،ختان، احتفال جماعي،..وقد اشتهر  منها الأنماط التالية: أزنزي، وارو، أباغور، أسركض، أعاير، تسكراوت، وأخيرا بايبي.[13]
أزنزي: غالبا ما يتم ترديده في الصباح الباكر وكلمة أزنزي تعني البكور الصباح الأول بعد ليلة الزفاف "تامغرا"ويتم الإنشاد غالبامن طرف النساء المحنكات اللائي لهن تجربة في هذا الشأن، وأزنزي يتسم بالتفاؤل والتيمن بالخير للعروس وللعريس والدعاء لهما بدوام العشرة وبالرفاه والبنين..ومن نماذج أشعار أزنزي:
Sbah lxir tagwramt a sbah lxir
A tin lfdur tibrmit a tin lfdur
ترجمة لذلك:
صبا الخير أيتها الموقرة ( المحترمة) (كناية عن العروس) وتمثيلها بالمرابطة (تاكرامت) احتراما لها.
صباح الخير يا ذات وجبة الفطور يا صحني (طبق الأكل) يا ذات وجبة الفطور
Iffu lhal ur iffu sll i wdida n iysan
A3ri nnk a mayd ignan ikkummc ard iffu lhal
وترجمته:
أصبح الحال (الصبح) كناية عن بزوغ النهار، أنصت إلى صهيل الخيل
طوبى لك يا من استغرق في النوم حتى طلوع النهار.
أباغور: وهو نوع من الأهازيج التي تنشد في هيئة الوقوف والقيام، قبل البدء في عملية وضع الحناء للعروسين، ويستحسن أن يكون الغناء مندمجا بين الذكور والإناث، كما يتطلب ذوي الحناجر القوية والأصوات الجميلة وهذه عينات من أباغور :
Nniyak nniyak aya abaghur
L3ar nk illi nw a timazdughin
Illi nw illi nw
A tisgmit inw
Tamhchacht inw a tanagamt inw
Talliy di ssgmiy tddu dyi tzry i..
ترجمة
قلت لك ..قلت لك ..اياباغور
ابنتي ..ابنتي..يا تلميذتي ومهذبتي
يا من تجلبين لي المياه من الساقية
تلك التي ترعرعت تحت عنايتي
ها هي تغادرني..
أعايـــــــــــر:
يظهر من خلال هذا العنوان أن الأمر يتعلق بلعبة ظريفة تتمثل في توجيه الكلام لوالدة العروس، ويتكون من استهلال يسمى أسركض أي محاولة جعل الحاضرين يقفزون، ومن نماذج أسركض
Nzzur k zwur any at tzwurd
I rray inw a rbbi qdu tayawsa
S d nusy allun inw
Ullah i3dim ur di nggar tasurift
Ard d ihry mulay
Tasdunt s wagga nns
Ssifid ay a tislit d mays
Uma isli idda irul ufan
Tandra n wallun inw
ترجمة هذه الأبيات:
أقسم بالله العظيم لن أخطو خطوة واحدة
حتى يسوق لنا الله بغلة بحمولتها من الخير
أطلقي سراحنا يا عروسة أنت وأمك
أما العريس فقد فر هاربا
لما أحس بصوت بنديري
خلاصة  المحور
يمكن القول بأن الشعر الأمازيغي يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى، لثورة فكرية تحفظه من الموات الذي يهدده في أي وقت، والأمر لا يتعلق بمجرد حقل أدبي وإنما بفلسفة ثقافة مجتمع له تاريخ وماض، ويتطلع باستمرار نحو بناء ذاته في المستقبل.
إن الشعر الأمازيغي مدخل خصب ليس فقط لفهم جانب من الأدب الأمازيغي الذي يتميز بالغنى والتنوع وإنما لفهم ثقافة هذا المجتمع الذي يعتمد على الشفهية في نقل تراث أجداده لا على الكتابة والتدوين .  
إن الشعر الأمازيغي من خلال ما سلف قد واكب حقا هموم المجتمع الأمازيغي وفلسفته وأقحم بطريقة فنية بديعة مصطلحات ومفاهيم محلية منبثقة من صميم جغرافيتهم الثقافية وشخصيتهم القاعدية. وبالتالي فإن مسألة تدوين هذا الإرث مرتبط بالجيل الصاعد المطالب بإعطاء الأهمية لهذا الزخم الإبداعي الغني وحفظه من التلاشي في ظل تنامي الثورات التكنولوجية التي تحصد الأخضر واليابس.
 
بيبليوغرافيا
المراجع
·        علي شرويط المرغادي، الرمزية في الشعر الأمازيغي، عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية مطبعة المعارف الجديدة 2010
·        محمد شفيق، اللغة الأمازيغية بنيتها اللسانية، مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية-الدار البيضاء- منشورات الفنك 2000
·        محمد أوسوس، دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي ، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مطبعة المعارف الجديدة – الرباط


المواقع الإليكترونية

·        الجريدة الإلكترونية لتنجداد www.tinjdad5.com
·        مدونة حامل الجرة www.hamel-eljarra.blogspot.com
·         



[1] جاء اعتمادنا مقابلات ميدانية لإغناء معرفتنا بالسياق العام الذي أنتجت فيه بعض القصائد الأمازيغية، وقد قصدنا في المقابلات مجموعة من الإمديازن المشهورون بأشعارهم الخالدة داخل واحة فركلة؛ وهو المجتمع محل الإشتغال والدراسة
[2] تعتبر الملاحظة حجر الزاوية في الدراسات الميدانية، وهي ركن لن نستطيع بأي حال من الأحوال التخلي عنه في تحليل ظاهرة على مستوى الميدان خاصة وأن كل العلوم شددت على ضرورتها في التقصي العلمي للظواهر المشتغل عليها.
[3] وهي من المناهج الكيفية التي تنتج معطيات كيفية تستخدم في مجال العلوم الاجتماعية على المتون المكتوبة والمصورة، واعتبرنا أن التقنية هي الأنسب في مقاربة الشعر الأمازيغي ميدانيا، نظرا لما تتسم به  هذه التقنية من مزايا تؤهلها لتقديم مقاربة واقعية للشعر الأمازيغي في سياق اجتماعي ومجالي محدد.
[4]  يعتبر"باهبي" شعرا وفنا غنائيا مرتبطا بجماعة حراطين واحة فركلة "تنجداد" ويعرف الحراطين ببشرتهم السمراء عادة وبتاريخهم المرير داخل الواحة أما أشعارهم فقد جاءت لتسلط الضوء على جانب من معاناتهم وآلامهم وتطلعاتهم.. كما وتعكس فلسفتهم في الحياة.
[5]  من بين أهم القبائل التي تستوطن واحة فركلة وهي مشهورة بتاريخها التليد على مستوى المجال الواحي الفركلي، كما أن ثقافتهم الشفهية غنية وخصبة
[6] سمير الساعيدي، التنشئة العنصرية بواحة فركلة ، بحث لنيل الإجازة في علم الاجتماع،   
·        [7]  محمد أوسوس، دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي ، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مطبعة المعارف الجديدة – الرباط ص 55

[8] في مقابلة ميدانية قمت بها في هذا الصدد مع مجموعة من نساء الواحة؛ حصلت على هذه المعلومات التي من خلالها كتبت مقالا معنونا ب " أزدام أو التحطب ؛ جانب من معاناة نساء واحة فركلة الأسطوريات " وهو منشور على مدونتي الإلكترونية www.hamel-eljarra.blogspot.com

[9] نشرت المقالة على الجريدة الإلكترونية www.tinjdad5.com  وعلى مدونتي الخاصة: www.hamel-eljarra.blogspot.com
[10] واحة فركلة " تنجداد" واحدة من أكبر الواحات بالرشيدية
[11] أحمد حداشي في تقديمه لكتاب، الرمزية في الشعر الأمازيغي لعلي شرويط المرغادي، عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، م المعارف الجديدة 2010 ص 7
[12] نفس المرجع ص 7
[13] نفس المرجع السابق ص 17

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مواصفات المقاول الناجح

ما دمت إنسانا يمتلك العقل والإرادة فأنت قادر على النجاح، لكن، يلزمك اتباع بعض أسس التفكير المنتج والذي من شأنه قيادة مشروعك لتحقيق النجاح. في هذه المحطة سنتحدث عن أهم مواصفات المقاول الناجح، بدونها يصبح المشروع مهددا بالانهيار في أي وقت، وهذه المواصفات هي كالآتي: 1- الثقة بالنفس: بدون الثقة في الذات يصعب عليك الإستمرار في بناء أي مشروع كيفما كان، فالثقة – هنا - عنصر هام لا محيد عنه في نجاح المشروع، والثقة ليست كِبرا ولا غرورا، بل هي الواقعية والالتزام في العمل وفق خطة محكمة معدة سلفا، كما أنها إيمان قوي بقدرة الذات على قيادة سفينة المشروع إلى بر الأمان رغم التحديات والعراقيل التي ستواجهك في الطريق. 2- الرغبة والقدرة: ونعني بـ"الرغبة" هنا توفر الإرادة الجامحة لإنجاح المشروع والتحفيز الذاتي المستمر والتفكير الإيجابي لحصد النتائج وتجاهل التسويف والمماطلة والتأجيلات. وأما "القدرة" فنعني بها القدرة على التعلم وشغف البحث والإطلاع في مصادر المعرفة المتنوعة والواسعة والتي من شأنها دعم معرفتنا وإغنائها لتزيد رؤيتنا وضوحا. فالمعرفة قوة والقدرة على تحصيل

أهم نظريات التنشئة الاجتماعية

النظرية البنائية الوظيفية : ويمكن القول بأنها نظرية تستمد أسسها من النظرية الجشطالتية في علم النفس و التي تدور فكرتها المحورية حول تكامل الأجزاء في كلّ واحد، بتحليل العلاقة بين الأجزاء و الكل، بمعنى أن كل عنصر في المجموعة يساهم في تطور الكل. فأصحاب هذه النظرية يرون في الأفراد و الجماعات أو أي نظام أو نسق اجتماعي يتألف من عدد من الأجزاء المترابطة، و بالتالي فان كل جزء من أجزاء النسق يكون وظيفيا، تماما كجسم الإنسان يتكون من مختلف الأعضاء ولكل جزء وظيفته [1] . و تشير النظرية البنائية الوظيفية؛ إلى أن كل أسرة نسق فرعي للنسق الاجتماعي، تتفاعل عناصره للمحافظة على البناء الاجتماعي وتحقيق توازنه. وتركز هذه النظرية على العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة و الوحدات الاجتماعية الكبرى، من خلال الدور الذي تؤديه في عملية التنشئة الاجتماعية للأعضاء الجدد في المجتمع . نظرية التحليل النفسي: ترى مدرسة التحليل النفسي، أن الجهاز النفسي للفرد يتكون من الهو والأنا والأنا الأعلى [2] . ويمثل الهو الجانب اللاشعوري من شخصية الفرد، وبالتالي فهو يميل إلى تحقيق غرائزه الفطرية؛ من مأكل ومشرب وجنس...الخ. ل