لقد نبه كبار
علماء الاجتماع في الغرب الى الخطر الذي تشكله المادة الاعلامية عموما والكتابة
الصحفية على وجه الخصوص في تمويه الرأي العام، لهذا ظلت السوسيولوجيا كعلم يهتم
بدراسة المجتمع وظواهره المختلفة اعتمادا على المنهج العلمي حذرة من
"الصحافة"، بل وتضع دائما مختلف الآراء التي تنشر وتعرض في الاعلام
السمعي البصري أو حتى الورقي محل تشكيك ونقد. وما فتئت بعض الآراء "الواعظة"
في هذا الصدد تدعوا إلى إقحام العلمية في الكتابة الصحفية؛ صونا للكرامة وحفظا
للمعلومة الصحيحة ونقلها كما ينبغي الى المتلقي.
إن عالم الصحافة
على اتساع مداه الاجتماعي وتنوعه وهيمنة البعد الاقتصادي الترويجي عليه، يفسد
حقيقة ما يجري في المجتمع، إذ يقدم بسبب سرعة التعليق والكتابة والترويج.. معرفة
ناقصة، بل قد تكون المعلومات التي يزفـــها الى جمهرة المتلقين معرفة مزيفة، تبعد
بالتالي المتلقي عن جوهر الحقيقة وتـــكوّن لديه تراكمات من "الوعي الزائف"
الذي يتحول بفعل تراكمات جديدة إلى ميكانيزم قاعدي يحكم التفكير، ويحول الشخص إلى
كائن مشكّــل من أفكار وهمية خرافية ومجازية.
ليس من السهل بلوغ
الحقيقة، إذ يتطلب الأمر عملا مضنيا من أجلها، ولن يتم ذلك في ظل التوجهات
الايديولوجية التي تحول دون اتسام الكتابات الصحفية والنشرات الاخبارية بالموضوعية
والنزاهة، خصوصا عندما تحكم "لوبيات" مشتغلة في الخفاء(الكواليس) الجهاز
الاعلامي، وتحوله من منبر ناقل للحدث إلى محرك للحدث، أو باعث للسيناريو الخادم
لمصلحة الجهاز الإيديولوجي المهيمن. وحيث أن الصحافة في كل المجتمعات "تكذب
كثيرا" فإن العلوم الاجتماعية التي تضع في حسابها الحقيقة والموضوعية
كرهان وكغاية أنطولوجية، مطالبة بزياد التنبيه بخطوة المادة الاعلامية على مستقبل
المجتمعات، خصوصا تلكم التي تعــزف قاعدتها العريضة عن القراءة، ولا تفتح الكتاب
إلا فيما نذر.
إن الاعلام يمارس
سلطة خطيرة للغاية في مجتمعاتنا المتخلفة على وجه الخصوص، فما أن تنزل إلى المجتمع
إلا وتجد الانسان "العامي" و"المثقف" على حد سواء؛ يردّدان
أخبارا متداولة في الاعلام الأسود، معتبرين إياها عمق الحقيقة، فتوجّه سلوكياتهم
بعد أن تكــوّن إنطباعهم و"هابيتوسهم" السياسي بالتعبير "البورديوي"
(نسبة إلى عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو)، فيصبح الاعلام بذلك في
تقاطع بين خدمتين؛ إما إشعال فتيــل لا يستحق أن يشعــل، وإما في إخماده بإحجام
الحقيقة الّمرّة.
من خلال سالف
الذكر فالحاجة إلى بناء إعلام علمي غاية وجودية من أجل فهم الذات برؤية
علمية أعمق، والبحث عن سبل انتشال "ثقافتنـــا" من مأزق التخلف والوهــن،
والبحث عن فضاء أرحب لبناء مستقبل وعي جيل يملك من "الحقائق" ما
يجعله مؤهلا لتوجيه أصابع الاتهام إلى اللوبيات الحقيقية المسؤولة عن ما وصل إليه
مجتمعنا من تمزق وعطب.
لقد ظلت
السوسيولوجيا كعلم ميــدان حذرة من الكتابة السريعة- والمتسرعة، والتعليق الخاطف
عن الخبر، وهذا هو حال الاعلام، الذي تحول بفعل السرعة والتسرع إلى "إعتام"،
فلعب دور المموّه بدل لعب دور الناقل الموضوعي للمعلومة الحقيقية. فالانطباعات،
التمثلات ، بناء الأفكار وتشييدها على رمال متحركة ( بناء على ما يعرض من الصور الاخبارية..
لا على البحث العلمي والرّوية الفكرية ) فضلا عن الكتابة او التعليق بعيدا عن مسرح
الأحداث (...) كل ذلك بإمكانه أن يحول
المعلومات المفترضة إلى أوهام ثابتة، تبنى وتشيد عليها حقائق وهمية، فيسقط
الفرد نتيجة هذه التراكمات في فخ الأحكام القيمية، دون أن يعي أن ما يحدث في
الواقع قد يكون مجرد لعبة تتحكم فيها "كائنات لا مرئية" فنخال
"الوحش" أميرا والأمير نخاله وحشا، دون علم بالنوايا والخبايا، كل ذلك
بسبب تمويهات مارستها السلطة الرابعة التي تحتكرها "لوبيات" تعرف
علم اليقين أن احتكارها ضرورة لا مناص منها للتلاعب بالعقول التي لا تملك وسيلة لتثقيف
نفسها، ماعدا المستطيل السحري القادر على خلق أساطير هادية، واعتبارها كنه
الحقيقة، أو تحويل الحقيقة إلى مجرد لعبة في يــد الأطفــال.
ما ينبغي التنبيه إليه
من خلال ما كتب حتى الآن؛ هو خطورة المادة الاعلامية سواء المكتوبة أو المرئية في
تمويه / وأحيانا تخدير الرأي العام، وتحريك الراكد من الأفكار صوب وجهات مجهولة،
فالإعلامي- الصحفي قبل أن يكون كذلك مطالب بالخضوع لامتحان مهني عسير، كي يصون
نفسه ويصون مجتمعه، ويضع الأمانة وعدم التسرع في النقل والترويج غاية من
أجل الحظوة، ولا شك أن "العلمية" ضرورية في هذا الصدد، لكي تلقى
الكتابة الصحافية ما تستحق، وحتى يتحول "الاعتام" إلى إعلام
حقيقي هادف، غايته الأنطولوجية – الوجودية؛ الوصول إلى اليقين بدل خدمة أجندات ممولة،
أو إيديولوجيات على حساب كرامة الشعب والأمن العام الوطني.
تعليقات
إرسال تعليق