يبدو أن المجتمع المدني في بلاد ما وراء البحار قد دخل مرحلة أقل ما يمكن القول عنها أنها جد متقدمة ؛ فبعد أن بدأ طفلا مستضعفا ، مغلوبا على أمره و محاصرا من كل الجهات ؛ أضحى اليوم على ما يبدو شابا قوي الذراعين مفتول العضلات وذلك بفضل اتساع هامش الحرية في بلاد الغرب - مقارنة طبعا بالسنين الماضية من الزمن الخالي ؛ أقصد بالضبط سنوات الحق الإلهي و الدولة الغول التي كانت فيه الكلمة موزونة و اللسان مقيدا و الأنف مخيرا فقط بتنفس الهواء النض المسموح بتنفسه... فكان الفضاء آنئذ خانقا و الأفق مسدودا ، أمام التعبير عن الواقع كما هو ، و كانت المنابر الإعلامية
حكرا على فئة دون غيرها، وأما صوت المثقف
فقد كان وهنا لا يسمع ولا يخدش، وان حاول
أن يخدش احد الفوقيين فان قانون السماوات
و الأرض يهبط عليه كالنازلة التي تنفطر له القلوب الصامدة ، فيعاقب
على ذلك عقابا شديدا- أليما ؛ إما باجتثاث لسانه وإما بإيداعه الجحيم قبل
يوم القيامة و إما ..و إما فأساليب
التعذيب الجسدي و النفسي كانت متوفرة و
لله الحمد على الأقل في ذلكم الوقت.
أما اليوم فالمشهد الجديب-الكئيب قد تغيرت ملامحه و أصبح المواطن الغربي على ما يظهر لي- ينعم بهامش أوسع من الحرية في التعبير و أصبح للمجتمع المدني فعله الوازن داخل المجتمع الغربي ؛ اذ يمكن القول عنه انه حاكم دولته ومدينته ومجتمعه، فإرادة المواطن هي التي تحدد شكل الدولة و هي التي تقرر وتفعل فعلها في المجتمع ، ولم يكن على الإطلاق للمجتمع المدني في بلاد الغرب أن يحصل على هذه الامتيازات كلها ؛ لولا اتساع هامش الحرية، و الديمقراطية وكل هذه المفاهيم هي نتاج لنضال فكري وعملي طويل ضد سلطة الكنيسة من جهة و سلطة الدولة الغول و الحاكم الجائر.
إن المجتمع المدني لم يكن بإمكانه أن يحصل على هذا الامتياز لو أن حواء – أي الدولة – بقيت على حالها ، ولا شك أن للحركات الفكرية التي انبثقت في أوروبا - الحداثة ؛ منذ انبثاق الحركات الإنسية التي أسهمت بقسط في بروز عصر النهضة و الذي كان له الدور البارز في ولادة الأنوار؛ دور في تحديد شكل الدولة التي أصبحت اليوم في البلاد الغربية أكثر إنصاتا للمواطن و أكثر انشغالا بالصالح العام والاهتمام بالأقليات الثقافية و بالحركات العمالية ..
لكن ماذا عن المجتمع المدني في بلادنا نحن ؟
ثم هل هناك أولا مجتمع مدني في مجتمعنا ؟
يتطلب الأمر هنا تحديد ماهية المجتمع المدني أولا ، فهو مفهوم زئبقي لا يوجد له تعريف جامع مانع مادام المفهوم يتحدد بمقتضى القصد الذي يبتغيه واضعه ، لكن على الرغم من أهمية هذه النقطة إلا أن هناك شروطا لا مناص منها لتحديد المجتمع المدني و أولى هذه الشروط و أهمها على الإطلاق ؛ الاستقلالية .
تتطلب استقلالية المجتمع المدني وجود دولة ديمقراطية تؤمن ممارسة وليس فقط شكلا؛ بمبادئ الحرية و المواطنة و غيرها من الأمور المرتبطة بالديمقراطية ، فهذا المناخ المتناغم إن تحقق وتقرر ، فسيكون بالفعل أرضية سانحة لانبثاق مجتمع مدني فاعل مستقل ماديا وسياسيا عن سلطة ورقابة الدولة ، ويمارس أنشطته المدنية و الثقافية دون قلاقل و أحزان من فوق أو من تحت ، غير أن الملاحظ المتتبع لبنية مجتمعنا يستنتج بأن الاستقلالية مغيبة تماما ، بل إن الهاجس الأمني يلازم هذه المجتمعات، وهذا ما يعكس أوجه التسلط أكثر من أوجه الحرية .
لهذا فالحديث عن المجتمع المدني في بلادنا المتخلفة و المقهورة هو مجرد كلام و شكل، بعيد عن الواقع الاجتماعي المعيش، قريب من لغة المكر و التمويه و الخداع ، لأنه لا مجتمع مدني في بلادنا .
تعليقات
إرسال تعليق