saidi.samir89@gmail.com
لقد لعبت ثورات كثيرة على مر التاريخ وتعاقب الأجيال دورا مهما في تغيير واقع
حال الإنسان نحو الأفضل، مع ذلك لا يمكن الجزم بأن كل الثورات أدت نتائج إيجابية، كما
أن الثورة بقدر ما تكون لها أهداف إنسانية سامية كمحو الظلم وإعادة توزيع الثروة واجتثاث
الفقر والظلم والفساد، إلا أنها قد تتم من أجل هدف في غاية التفاهة والسخافة.
من بين الثورات التافهة تلكم التي تقع من حين لآخر في الواحات، هي ثورات جماعية
تقام ضد فرد واحد أو إثنين، ولا تقام هذه الثورات ضد طاغية أو جبار عاتي أو حتى ضد
أحد الأعيان الفاسدين، لأن الجماعات في الواحة لم تعد جريئة كما كانت في الماضي، ولا
تستطيع حمل بندقيتها أو توحد كلمتها ضد الطاغوت. لكنها قادرة على تأجيج غضبها على فرد
مستضعف بمجرد جهره بفكرة خطيرة تهدد أمن واستمرارية اشتغال نظام الاثنية.
ولعل الزواج المختلط أحد أكبر الأسباب التي يمكن أن تحول دون استمرار اشتغال
الاثنية في الواحات.
إن القبائل التي تستمد عادة هويتها من انتمائها إلى "الجد المؤسس"
تقاوم بشدة إرادة افرادها وتقتل فيهم الاحساس بالاستقلالية، لقد كانت معاناة
"يُساد" لا تطاق داخل قبيلته عندما وقع في غرام فتاة سمراء تنتمي إلى أحد
قصور واحة قريبة. فقرر إنصاتا لرغبة قلبه أن يتقدم لخطبتها. وما أن أعلن عن موقفه
الشجاع ذاك حتى كان والديه أكثر من عارضه على هذا القرار السخيف. فطرد من المنزل قبل
أن تقوم قبيلته بشن هجوم رمزي عنيف على إرادته.
لم يكن "يساد" شخصا ضعيفا ليتراجع أمام قوة القبيلة، بل تحدى منطقهم
السخيف بأنفة وقوة، فأعلن لهم بأنه لن يتراجع أبدا عن قراره بالزواج من السمراء التي
أحبها بشدة، وكان رد فعلهم أن قاموا بطرده من جماعة القبيلة طردا فيزيائيا ورمزيا.
وهكذا تحول يساد من فلان أبن القبيلة الفلانية إلى يساد ابن نفسه.
لقد جعلته جرأته يطرد من جماعته، لكنه أحس بفيض من الثقة والاستقلالية خصوصا
بعدما استقبله سود الواحة ورحبوا به ضمنهم، وهكذا تحول يساد من هوية بيضاء متزمتة إلى
هوية سوداء مرنة تقبل كل شيء جميل، تقبل الاختلاف وتقبل الانفتاح في أمور الزواج وتقدس
ثقافة الحب في تراثها كما في ممارساتها.
أصبح يساد جزءا من جماعة السود رغم بشرته البيضاء وأنجب أبناء كثر، وأصبحت حياته
أكثر استقلالية عن ثقافة القبائل التي تجعل الفرد يعيش قيودا صارمة، وتجعل استقلاليتهم
شبه معدومة في الاختيارات الشخصية.
لا أحد يستطيع أن ينكر بالنظر لقوة دلائل الواقع مدى مرونة ثقافة السود في الواحات
مقارنة بثقافة بعض القبائل البيضاء المنغلقة، وهي علاوة على ذلك ثقافة انسيابية متسامحة
منفتحة على الاخر باستمرار، تقبل الزواج المختلط إذا كان مبنيا على أسس موضوعية وأهداف
واضحة، وتقبل كل ما هو جميل.
الثقافة السوداء في الواحات فخر لصاحبها، لكن للأسف الشديد كثيرون لا يستطيعون
إدراك هذا الجمال بالنظر لاختزالهم تاريخ السود في عبارتين "الخمّاس، والحرطاني".
إن هذا الحرطاني الذي ينظرون إليه نظرة احتقار هو الذي علم القبائل أهمية التسامح
وأهمية العمل بجد لكسب لقمة العيش بدل اعتماد البندقية والسيوف للإغارة على الآخرين
وحرمانهم من كل ما امتلكوه.
إن السود هم الذين آمنوا بأن التسامح جزء مهم في الثقافة لهذا شيدوا ثقافتهم
على الحب؛ حب العرب وحب الأمازيغ وحب اليهود والمسيحين كما المسلمين؛ حب كل من يملك
في قلبه مثقال درة من إرادة الحب.
لقد أدرك "يساد" هذه الأشياء مبكرا، وكلما تحدثت إليه عن سبب أقدامه
على تحدي أعراف قبيلته إلا وتحدث بمرارة عن فكر أفرادها المتسخ، أنه بتعبير "يساد"
فكر عنصري مقيت، لم يستطع تحمله.
لقد كان يساد مذ كان تلميذا في ثانوية الحسن الثاني محبا للسود، وكان أغلب أصدقائه
النجباء في تلك المرحلة من السود، ورغم أنه كان يتعرض لوابل من الانتقادات من طرف أطفال
وشباب قصره البيض وهو الذي يفضل مرافقة السود عليهم إلا أن ذلك لم يثنيه من المضي قدما
وفق إرادته، وهكذا أكل "يساد" مع السود في نفس الطاولة، أكل خبز السود وأكلوا
خبزه، دخل منازلهم واستقبوله بحفاوة، لعب معهم الكرة وصنع برفقتهم عالمه الجميل. بعيدا
عن ثقافة القبائل المنغلقة. وكان تفاعله الدؤوب والمستمر معهم سببا جعله يسقط
في حب فتاة سمراء جميلة، تطورت علاقتهما إلى أن توجت بالزواج مستقبلا.
لقد رفض يساد أعراف ومنطق قبيلته، فغارت عليه وطردته طردا نهائيا، لكنه وجد
أخيرا ملاذه في جماعة السود الذين استقبلوه وجعلوه جزءا منهم. جعلوه يشتغل في الحقول
فتقوت سواعده وأصبحت بشرته البيضاء برونزية ذهبية ساحرة. وأنجب أبناءه وسماهم بأسماء
السود التي تحمل قيم القوة والعفة وروح الدعابة الرفيعة.
يساد علم الواحيين والقبليين أن من شأن التضحية التي قام بها أن تؤسس مستقبلا
لميلاد مجتمع واحاتي أكثر اندماجا وأكثر انفتاحا وأقل تعصبا للقبيلة والاثنية.
تعليقات
إرسال تعليق