التخطي إلى المحتوى الرئيسي

خطاب الحداثة في العالم العربي: نموذجي عبد الله العروي وإدوارد سعيد




لازالت ذاكرتي تحتفظ بمضمون تعريف وضعه محمد سبيلا للحداثة، باعتبارها ذلك التحول الجذري على كافة المستويات: في تصور الطبيعة والتاريخ، والاقتصاد ..إنها في نظره بنية فكرية كلية وهذه البنية الفكرية الكلية عندما تلاقي وتلامس بنية تقليدية فإنها تكتسحها وتصدمها ممارسة عليها ضربا من التفكير ورفع القدسية.
إن التحولات الحضارية التي شهدها الغرب في "عصر الحداثة" قد أفرزت على مستوى الخطاب مسألتين مهمتين؛ تغير في المنهج و تحول المضمون، فقد كان لبروز منهج الشك الذي استخدمه "رونيه ديكارت" فضلا عن التطورات التي تحققت في حقلي العلوم الطبيعية والفيزيائية تأثيراتها  البالغة على حقول معرفية أخرى، "فكانط" مثلا هام بالمنهج التجريبي، وفلسفته إنما هي تجسيد لهذا المنهج الوضعي، كما أن تأثير هذا المنهج بالذات مس الأدب والفن وكل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فانبثقت حينئذ مناهج تسترشد بالنموذج الطبيعي الوضعي، كالمنهج النقدي التاريخي الذي يهتم بدراسة عصر الأديب والأحداث التاريخية الذي تؤثر في الانتاج الأدب،  ثم المنهج الاجتماعي، الذي يرى أن أي أدب يحتوي على مدلول ومن الضروري ان يرتبط هذا المدلول بقضية اجتماعية، علاوة على مناهج أخرى كالمنهج النفسي الذي استفاد من أعمال فرويد وثورته الكبرى في"اللاشعور"  والذي ينظر الى النص الأدبي بوصفه تعبيرا عن عقد المبدع النفسية،  وهناك في روسيا البيضاء برز المنهج الشكلاني الذي يهتم بالتحليل الداخلي للنص من حيث التركيز على آليات السرد الحكائي. ثم ظهرت البنيوية مستفيدة من الشكلانية لتهتم بتحليل العلاقات بين العناصر الداخلية في بنية النص الأدبي من خلال دراسة المستويات المشكلة للنص دون اعتبار العناصر الخارجي المؤثرة في المبدع.
كل هذه المناهج المتطورة في ذلكم الوقت أحدث تأثيرات ورجات خارج السياقات التي نبتت فيها، وحضي عالمنا العربي بنصيبه من هذا التأثير، خصوصا بعد انفتاح الثقافة العربية على الفكر الغربي، فكان نتيجة ذلكم أن هام بعض النقاد العرب بالمناهج النقدية الغربية وحاولوا تطبيقها بحذافيرها. وسأحاول في هذه المداخلة فهم طبيعة استخدام هؤلاء النقاد لهذه النماذج وأهم الاشكالات المطروحة في هذا الصدد، وذلك على ضوء القراءة التحليلية لكتاب الايديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروي، ثم كتاب الثقافة والامبريالية لإدوارد سعيد.
ترى ؟ ! كيف تصور "عبد الله العروي" "وادوارد سعيد" المنهج والخطاب الحديث وماذا عابا عنه ثم ماذا أشادا فيه ؟ تلكم إذا هي الاشكالية الأساسية التي سأحاول بناء على ما قرأته للرجلين.
تطور خطاب الحداثة في الفكر العربي عبر لحظتين فكريتين: فأثيرت قضايا مرتبطة بالنهضة العربية، العقل، الدستور، القديم والجديد في المرحلة الأولى، ثم أثيرت نفس المواضيع في المرحلة الثانية لكن بمنظور جديد اعتمادا على رؤى  نقدية جديد، وقد شكل عبد الله العروي مرحلة متقدمة من لحظات الحداثة في الفكر العربي، حسب الأستاذ لقزيز[1].
ويرى عبد الله العروي أن ما يعانيه الواقع العربي يتجلى فيما أسماه التأخر التاريخي، وهذا المفهوم في الواقع مقولة سوسيولوجية بالأساس تعني في جملة ما تعنيها تباطؤا في تطور البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكذا الثقافية لعدة قرون من الزمن، حيث ثمة نوع من الاستمرارية في إنتاج وإعادة القيم التقليدية القديمة، ومن بين أهم الاستنتاجات التي خلصت إليها أن عبد الله العروي في كتابه الايديولوجية العربية المعاصرة يحاول فهم مغزى الأشكال التعبيرية ومساءلة مدى مطابقتها للبنيات الاجتماعية واستجابتها لهموم الشعب، وقد استحضرت ها هنا التوجه الايديولوجي للعروي المعروف بنزعته الماركسية (النزعة التغييرية) وهنا يحق لنا أن نطرح سؤالا لم يطرحه العروي بصورة مباشرة في كتابه وهو: ما جدوى هذا الأدب المتناثر في كل الأرجاء والبقاع العربية إن لم يخدم تغيير المجتمع العربي العليل، ويقضي على حالة الفوضى والقلق الاجتماعي والسياسي وعلى حالة (تعجرف) الخطابين الأرثودوكسي الديني اللاهوتي،  والليبرالي (التائه في تطبيقه الحرفي للنظريات الغربية على السياق العربي)؟
في كتاب الايديولوجيا العربية المعاصرة (ومحاولة لفهم ما جرى من تخبط للذات العربية..) أثار العروي قضايا أربع رئيسية هي : مسألة الذات، التاريخ، المنهج ثم مسألة التعبير.
*    مسألة الذات: ترتبط بسؤال تحديد العرب لهويتهم وبيان العلاقة التي تربطهم بالغرب
*    مسألة التاريخ؛ حيث لا تسترجع الذات بريقها إلا باستحضار علاقتها بأمجاد الأسلاف
*    مسألة المنهج: تستتبع هذه المسألة البحث عن طريقة للفكر ومنهج للتفكر والتصرف وبالتالي الاسهام في كونية العقل البشري
*    مسألة التعبير: من خلال طرحه السؤال الضمني عن الطريقة أو الصيغة التعبيرية التي بإمكانها أن تمثل الوضعية الانتقالية .
وهذه هي المسائل الأربعة التي شغلت في نظر عبد الله العروي بال العرب، يقول في هذا الصدد " ..هذه هي المسائل التي تشغل بال العرب منذ ما يناهز مائة سنة، إذا تكلمنا مجازا قلنا إنهم منذ النهضة يبحثون عن شيء ما؛ الهوية، العقل، الكوني، الفن المطابق، وإذا تكلمنا كلاما مجردا قلنا أن الاشكالية القومية العربية تدور حول أربع ركائز: الأصالة، الاستمرارية، الكونية ، التعبير[2].
وحيث أن البنية السياقية للعالم العربي تمتد على مساحة جغرافية كبيرة وشاسعة، والتثاقف حاصل مع باقي الثقافات فقد حدثت تحولات فيما يخص هذه البنية السياقية، حيث أنتجت كما أوضح العروي "مثقفين إيديولوجيين" أخذ كل واحد منهم وظيفة ما ، تتضح هذه الوظيفة وتتجلى من خلال الانتاجات الثقافية الأدبية التي تعكس الوعي السائد. والذي يمكن حصره في " وعي المثقف الشيخ (نموذج محمد عبدو)  رجل السياسة،  ثم داعية التقنية، فهؤلاء يمثلون الوعي السائد في"البنية السياقية العربية" كما أنهم علاوة على ذلك حملوا لواء النقد العربي، وهذا النقد في نظر العروي لم يستطع تصوير الوضع والواقع العربي المعيش كما ينبغي. فالتقليد الليبرالي ظل يقلد التحليل النفسي، النقد الواقعي، ظل يستلهم إنتاجات الطبيعين  (الوضعية ) أما النقد التقدمي فقد ظل يقتفي آثار الواقية الروسية.
ويشير عبد الله العروي إلى أنه لم تبرز حركة نقدية تسائل الأشكال التعبيرية المعاصرة وتبين أهميتها وجدواها وتبحث عن آليات لتطويعها ومطابقتها للواقع العربي ويرجع ذلك إلى مسيري الدولة العربية الذين يسهرون على تكوين الكتاب بالتدريب والتأهيل.
ودون الدخول في مناقشات سياسية وإيديولوجية ستجرنا بعيدا عن لب المشكلة أو د أن اشير إلى أن عبد الله العروي قدم مجموعة من الانتاجات الأدبية وبين كيف أنها لم تتمكن من سبر أغوار المشكلة والمأساة العربية، كما أنها لم تواكب في نظره التطلعات فظلت إلى أبعد الحدود فاشلة عن تغيير ما يجب تغييره، فالمسرح مشكلته كما أشار العروي بنيوية إذ ظل بلا مضمون نتيجة غياب الوعي القاعدي الكافي لفهمه، أما الرواية فرغم ضخامة انتاجها فإنها لم تستطع لم شتات مجتمع عربي ممزق، نفس الأمر ينطبق على الرواية كالشعر والقصة والحبل على الجرار. ويرى أنه على الرغم من ضخامة انتاجات نجيب محفوظ مثلا إلا أنها محصورة بنطاق.
من هنا انتقد العروي الايديولوجية العربية المعاصرة عن طريق تفكيك بنياتها ومساءلة محتواها بهدف فتح الباب للخلق والابداع، فالمثقف الشيخ يعيد انتاجات الخطابات الماضوية،  أما الليبرالي فيعيد آراء جون لوك ومونتسكيو في حين بقي المثقف التقني يسرد مواعظ سبنسر وكونط.
لهذا فالعالم العربي حسب عبد الله العروي في أمس الحاجة إلى مناهج نقدية في الخطابة لتتواءم والسياق الجديد. ويقدم المنهج التاريخاني كفلسفة أساسية لكل مؤرخ إذ يعتقد أن التاريخ هو العامل المؤثر في أحوال البشر وهو سبب كل الحوادث، فالتاريخانية تعود الى الماضي كمعطى أو كتحصيل حاصل لمحاكمة الحاضر، وهكذا يصبح التاريخ عند العروي تجليا للوعي.
أما بخصوص إدوارد سعيد فخطابه من خلال قراءتي لكتابه الثقافة والامبريالية  وقبله الاستشراق فيظهر لي أنه لا يؤمن بنص بريء، فكل خطاب كيفما كان ينبني على إيديولوجيا مناقضة تماما لخصوصية النصية الجمالية التي تميز الإنتاج الأدبي، إن النصوص في النهاية أشياء مادية وليست مجرد فيض خالص يفيض عن نظرية من النظريات[3] من هنا كان رفضه للمنهج البنيوي، والشكلاني لمغالاتهما في مسألة النصية اللغوية. حيث أبرز في كتاب الثقافة والإمبريالية (وهو بالمناسبة جوهر الأفكار التي بنيت بها هذا الشق من الموضوع ) كيف أن نصا جميل الشكل غزير المضمون يمكنه أن يحمل في جوهره مظاهر بشعة، على نحو ما اكتشفه من خلال تحليل نماذج لروايات غربية نموذج "جين أوستن" الذي رأى إدوارد أنه رغم ما ينبني عليه عمله من إبداع وجمالية إلا انه يخدم الامبريالية، نفس الأمر ينطبق على إنتاجات أخرى حللها إدوارد سعيد مستعملا التحليل الطباقي.
لقد رفض إدوارد سعيد الفكر العربي المتعصب تماما كما فعل العروي الذي رفض الدوغمائية والفكر الأحادي الاتجاه، ونادى بضرورة التواصل والحوار مع الآخر المختلف، وربط اواصر وجسور التواصل والحوار مع الثقافات الأخرى،  كما دعا الى كشف خطاب الاستعمار الذي يختبئ خلف جمالية النصوص الأدبية والانتاجات الثقافية، فكان حسب بعض النقاد بتحليلاته تلكم مؤسسا "للنقد الثقافي".
هذه إذا أفكار محورية عن ووجهات نظر كل من عبد الله العروي وإدوارد سعيد فيما يخص خطاب الحداثة في عالمنا العربي



[1] عبد الاله بلقزيز، التأريخ لفكرة الحداثة في الوعي العربي المعاصر، نشر في جريدة المساء في 03/09/ 2009
[2]  عبد الله العروي، الايديولوجية العرية المعاصرة، ص .24
[3] أنظر إدوار سعيد في مقدمة كتابه الثقافة والامبريالية


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشعر الأمازيغي "باهبي ونماذج من أشعار أيت مرغاد"

  يعتبر الشعر أو "تامديازت" الشكل الأكثر تعبيرا عن حياة الإنسان الأمازيغي وفلسفته في الحياة، الشيء الذي يكشف عن غنى هذا الشكل الأدبي شكلا وعلى مستوى المضمون أيضا، فقد عني الإمديازن أو الشعراء الأمازيغ عناية فائقة بتقديم قصائدهم بقالب جميل الشكل غزير المضمون، وقام التنافس على أشده ولم يقعد بين كبار الشعراء الأمازيغ في مختلف المناطق التي يستوطنوها، بل إن التنافس وصل حد التراشق بالكلمات المصقولة أمام الجماهير في الأعراس والاحتفالات الطقوسية وفي مختلف التجمعات القبلية الأخرى.

مواصفات المقاول الناجح

ما دمت إنسانا يمتلك العقل والإرادة فأنت قادر على النجاح، لكن، يلزمك اتباع بعض أسس التفكير المنتج والذي من شأنه قيادة مشروعك لتحقيق النجاح. في هذه المحطة سنتحدث عن أهم مواصفات المقاول الناجح، بدونها يصبح المشروع مهددا بالانهيار في أي وقت، وهذه المواصفات هي كالآتي: 1- الثقة بالنفس: بدون الثقة في الذات يصعب عليك الإستمرار في بناء أي مشروع كيفما كان، فالثقة – هنا - عنصر هام لا محيد عنه في نجاح المشروع، والثقة ليست كِبرا ولا غرورا، بل هي الواقعية والالتزام في العمل وفق خطة محكمة معدة سلفا، كما أنها إيمان قوي بقدرة الذات على قيادة سفينة المشروع إلى بر الأمان رغم التحديات والعراقيل التي ستواجهك في الطريق. 2- الرغبة والقدرة: ونعني بـ"الرغبة" هنا توفر الإرادة الجامحة لإنجاح المشروع والتحفيز الذاتي المستمر والتفكير الإيجابي لحصد النتائج وتجاهل التسويف والمماطلة والتأجيلات. وأما "القدرة" فنعني بها القدرة على التعلم وشغف البحث والإطلاع في مصادر المعرفة المتنوعة والواسعة والتي من شأنها دعم معرفتنا وإغنائها لتزيد رؤيتنا وضوحا. فالمعرفة قوة والقدرة على تحصيل

أهم نظريات التنشئة الاجتماعية

النظرية البنائية الوظيفية : ويمكن القول بأنها نظرية تستمد أسسها من النظرية الجشطالتية في علم النفس و التي تدور فكرتها المحورية حول تكامل الأجزاء في كلّ واحد، بتحليل العلاقة بين الأجزاء و الكل، بمعنى أن كل عنصر في المجموعة يساهم في تطور الكل. فأصحاب هذه النظرية يرون في الأفراد و الجماعات أو أي نظام أو نسق اجتماعي يتألف من عدد من الأجزاء المترابطة، و بالتالي فان كل جزء من أجزاء النسق يكون وظيفيا، تماما كجسم الإنسان يتكون من مختلف الأعضاء ولكل جزء وظيفته [1] . و تشير النظرية البنائية الوظيفية؛ إلى أن كل أسرة نسق فرعي للنسق الاجتماعي، تتفاعل عناصره للمحافظة على البناء الاجتماعي وتحقيق توازنه. وتركز هذه النظرية على العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة و الوحدات الاجتماعية الكبرى، من خلال الدور الذي تؤديه في عملية التنشئة الاجتماعية للأعضاء الجدد في المجتمع . نظرية التحليل النفسي: ترى مدرسة التحليل النفسي، أن الجهاز النفسي للفرد يتكون من الهو والأنا والأنا الأعلى [2] . ويمثل الهو الجانب اللاشعوري من شخصية الفرد، وبالتالي فهو يميل إلى تحقيق غرائزه الفطرية؛ من مأكل ومشرب وجنس...الخ. ل