لازلت أحتفظ لنفسي بأهم الخلاصات التي توصل إليها كل من إرنست بيرجيس، لويس ويرث، وروبرت بارك[1] في دراساتهم وأبحاثهم المستفيضة حول المجال المديني، والتي تشكل عبارة المجال المادي ليس مجرد مادة بلا روح وضمير قطب رحاها، وهذه الفكرة هي قاعدة من أهم القواعد التي تأسس عليها الدرس الانثروبولوجي والتاريخي حول العمران وفنونه وكذا أشكاله، والتي تعكس ثقافة وروح مجتمع من المجتمعات خلال حقب تاريخية من حياتها.
ويأتي هذا الموضوع ليسلط الضوء على جانب من أهم
المظاهر الثقافية للمجتمع المغربي، والتي تتجلى أساسا في أشكال وفنون العمارة
ومواد البناء وما تنطوي عليها من أبعاد ودلالات سوسيو-أنثرو- تاريخية وجمالية، من
خلال نماذج سأحاول في هذا الموضوع التطرق إليها على ضوء المعارف التي تكونت لدينا
في هذا الصدد.
بادئ
ذي بدء أود أن أؤكد بأن الدرس التاريخي يعلمنا أن الفن الإسلامي المغربي غني وخصب،
وكل شكل من الأشكال التي وسمت العمارة المغربية سواء المدنية أو العسكرية أو حتى
الدينية، إنما تعكس جانبا من تاريخنا بعصوره المتنوعة وجماعاته التي حكمته وقتئذ،
فطوال الصيرورة التاريخية لتطورنا التاريخي وانتقالنا من حال إلى حال بتعبير ابن
خلدون؛ شكلت العمارة ذلك التجسيد الحي لهذه الصيرورة ومنحها الخلود؛ انطلاقا من
استعمال تقنية الطابية في أشكال البناء (التي بدأت حسب الأبحاث الحديثة في علم
الآثار منذ العصر الروماني) مرورا بمختلف أنواع الزخارف والتشكيلات الفنية التي
وسمت العمارة المغربية، وصولا إلى البناء العصري في حلته الحالية، والتي تستخدم
فيه مواد مستوردة ونماذج معوملة هددت تراثنا الخالص كما بين جمال عليان في كتابه
"الحفاظ على التراث الثقافي"[2]
أمكننا القول إذا بأن هذا التراث المادي
هو تجسيد حي لهويتنا الثقافية، وما دام الأمر كذلك؛ فألا يحق لنا التساؤل عن مواد
البناء المستعملة في إنشائه ؟ ثم عن أهم خصائصه ومميزاته التي جعلت منه فنا زاخرا
واستثنائيا ؟
كما
سبقت الإشارة قبلا؛ العمارة المغربية تجسد في مظاهرها المتنوعة جانبا من حياة كل
عصر، فالطابية استعملت منذ العصر الروماني ولا تزال إلى اليوم تستعمل في بعض
المدارات القروية الستاتيكية، شأنها شأن الطوب الذي استعمله المرابطون في بناء بعض
المباني بمراكش، كما
استعمل العامل المغربي الطين، والذي منه صنع الأجور والقرميد، وتم تزيين الأرضيات
بالزليج البلدي والمينا والحجارة في المناطق الساحلية، وغطيت الجدران بتادلاكت
وأكسيت بها الحمامات والسقايات، كما استعمل "الجبس" وتم بالخشب تسقيف
البنايات وإرساء الأعمدة والقوائم، وقد استفاد الصانع المغربي من كل هذه الأشياء
التي منحتها إياه الطبيعة، وتفنن فيها في رسم لوحات زخرفية آية في الروعة والرونق،
خصوصا في العمارة الدينية التي خصها الصانع المغربي بكامل العناية والاهتمام، ولم
يكتفي بالزخرفة النباتية والهندسية للأقواس والقباب والمآذن من الداخل؛ بل اعتمد
على ملء كل فراغ بكتابة آيات قرآنية باستغلال سحر الكتابة بمختلف الخطوط التي
أبدعتها عقول الفنانين في كل عصر من العصور التي مر بها المغرب، ولم يغفل الصانع
المغربي الأشكال الخارجية للعمارة بل خصها هي الأخرى بكامل العناية والاهتمام
موظفا مختلف الأبعاد الجمالية، والرمزية، الاجتماعية، الثقافية..والهندسية. ويتجلى
ذلك في أشكال المآذن المختلفة في العمارة الدينية ( الحلزونية، المربعة،
المستطيلة، الأسطوانية، المثمنة...) فضلا عن القباب التي خصها بكامل العناية
والزخرفة والتي استعملت في تزيين الأضرحة والحمامات والقصور وتنوعت أشكالها بين
الهرمية والدائرية ( نموذج قبب جامع القرويين، قبة قصر البديع...) كما أبدع الفنان
المغربي في العقود التي لعبت دورا في تخفيف الضغط على المباني وحافظت على توازنها،
وساهمت في هندستها وزخرفتها. ومن العقود التي شاع استعمالها في المغرب نذكر على
سبيل المثال لا الحصر؛ العقد الحدوي، الكامل، المفصص، المدبب، المقرنص، ..إلخ
إن
الحديث إذا عن العمارة وخصائصها في المجتمع المغربي، هو حديث عن إرث ثقافي مادي
يجسد تاريخ هذا المجتمع السحيق، ومختلف المراحل والأشواط التي قطعها في صيرورته
التاريخية (...العهد الإدريسي، المرابطي، الموحدي،
المريني، السعدي، وصولا إلى العصر العلوي وحتى يومنا هذا) فلكل عهد بصمته في إضافة تيمته الخاصة وعنصره المعماري
في بناء وتشييد المنازل والمساجد والمؤسسات العسكرية، فكانت بذلك العمارة بكل ما
تحويه من عناصر الجمال والزخرفة شاهدة لكل مرحلة من مراحل التطور التاريخي للمجتمع
المغربي، وإذا أردنا أن نؤكد ماديا هذه الخاصية دعونا نعرض لكم هذه الصور المتنوعة
التي تعتبر تجسيدا حيا لما قيل قبلا، والتي توضح مختلف أشكال البناء المغربي
المشيد بالطابية والحجارة والآجور..وما إلى ذلك من مواد:
خلاصة أمكنني القول بان العمارة ليست مجرد
تنظيم فيزيقي مادي، وإنما هي ثقافة وروح تمتد في تقاليد الناس وأعرافهم وتاريخهم،
فالحفاظ على الموروث المادي هو جزء لا يتجزأ من الحفاظ على أصولنا وجذورنا
التاريخية، كما أن إقبار وتهميش هذه المعالم التراثية سم زعاف سنندم عليه ذات يوم
لا محالة !؟..ويجب
على جميع فعاليات المجتمع سواء أكانوا سياسيين أصحاب القرار، أو فاعلين اجتماعيين أو
اقتصاديين أو مواطنين..؛ أن يعوا جيدا بأن فقدان مقرنصة من المقرنصات القديمة، أو زخرفة من الزخارف أو شماسية من الشماسيات أو
منزل طيني تراثي، إنما هو فقدان لجانب من تاريخنا ورمز من رموزنا التي كانت فيها
حياة حيوية في مرحلة معينة من ماضينا.
[1] هم من أقطاب مدرسة شيكاغو التي ركزت على دراسة
التنظيم الفيزيقي للمجال المديني لشيكاغو الأمريكية وأشكال البناء والعموان الذي
يعكس في نظرهم ثقافة الجماعة التي تستوطنه، ويركزون في أبحاثهم على المظاهر
الثقافية للمجال.
تعليقات
إرسال تعليق