التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أهمية الثقافة وآليات المحافظة على التراث


        قبل الحديث عن آليات الحفاظ على التراث دعونا نتعرف قليلا عن أهمية هذا التراث الذي يشكل ثقافة جماعة ومجتمع، ويحدد بالتالي الشخصية والوجه الحقيقي لهذا المجتمع أو ذاك؛ وسنفتتح هذا المحور بإشكالية دامغة؛ هدفها تأطير أبعاد الموضوع الذي يعتبر في نظرنا من أهم المشاريع اللازم التركيز عليها في عملية "التنمية" وتحقيق التغير الاجتماعي والنموذج الحضاري المنشود؛ فهل ثقافتنا بما تحويه من تراث وعوائد وأعراف وتقاليد قادرة على خلق جيل ممن يمتلكون القابلية لتغيير واقع الحال بمجتمعنا أم هي على العكس من ذلك ثقافة همجية مكرسة للتخلف والتأخر عن ركب التقدم ؟ ثم كيف ينبغي التعامل مع التراث هل بالقطيعة كما دهب إلى ذلك البعض "عبد الله العروي نموذجا" أم لابد من غربلته ونقده وتمحيصه ؟
        كتب  الاقتصادي الياباني  "بوشيهار كيونو " إن أحد أسباب تطور اليابان هو أنها تملك ثقافة مناسبة لذلك فقد علق اليابانيون أهمية على المساعي المادية، العمل الجاد، الادخار للمستقبل ،الاستثمار في التعليم وقيم المجتمع، هكذا نميز بين ثقافة ميالة للتقدم وثقافة مقاومة للتقدم[1].
         يظهر أن الثقافة هي الوجه الآخر للمشروع الحضاري، هي مشروع للتغيير وتطور واقع الحال وبناء مجتمع عتيد وقوي من الجوهر، فالتاريخ يعلمنا بأن الحضارات لا تنهض إلا بالثقافة، أي بظهور نموذج من المعتقدات والأفكار التي تعيد تأطير المجتمع وتحدد العلاقات فيما بين ساكنته وتحدد أدوارهم داخل المجتمع، فالحضارة الإسلامية على سبيل المثال لا الحصر، لم تكن لتولد يوما إلا بظهور القرآن والعقيدة الإسلامية التي حثت على العمل الجاد ونبذت كل سلوكيات الخمول والتقاعس  وانهارت هذه الحضارة بموت اعتناق هذه المبادئ والتوجيهات وبموت التجديد الذي لم يوازي تطور المجتمعات الأخرى ، فالعامل الثقافي شرط لبناء المجتمع هذا ما علمه إيانا الإرث الفيبري[2] في هذا الصدد، والذي لا يرجع تطور المجتمع إلى عوامل مادية فقط كما ذهب إلى ذلك كارل ماركس؛ وإنما إلى عوامل ثقافية متجسدة في القيم والمعايير التي لها تأثير قوي في عملية التغير الاجتماعي[3] فالمنطق المادي غير كاف إذا لتفسير التطور الذي تخطوه الإنسانية في سلم التدرج والرفاه الاجتماعي ذلك أن المنطق المادي على حد تعبير آدم كوبر غير كاف في تفسير نشأة الرأسمالية لأن ذلك يتجاهل روح الرأسمالية[4].
        الواقع أن تطور المجتمع أو تحقيق تغير اجتماعي منشود يجب أن يضع البنية الفوقية في الاعتبار، عبر بث الحياة في أشكال ثقافية تشكل الشخصية القاعدية التي بإمكانها أن تشكل جيلا ممن يمتلكون القابلية للعمل الجاد وحب الذات الجماعية ويحسون بالغيرة والرغبة في تحدي الركب والوصول بالمجتمع نحو الغاية المنشودة.
        يظهر التأثير الواضح للثقافة إذا في قيادة المجتمع نحو بناء نموذجه الحضاري، فطبيعة القيم والمعايير والأفكار السائدة في مجتمع ما هي التي تشكل ثقافة قاطنته وتحدد قدرهم، فبفضل منظومة تلك القيم والمعايير قد تقودهم إلى إنتاج شروط تطورهم وبسببها قد يعيدون إنتاج تخلفهم واجترار أخطاء الماضي ، يصبح بذلك العامل الثقافي أهم ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في كل مخططات التنمية الاجتماعية والاقتصادية وفي كل مشروع يتغيى بناء نموذج حضاري قوي ومتين من أساسه، فالحضارات لا تنهض إلا بالثقافة ولا تنهار إلا بالثقافة/ والثقافة القوية هي التي تنسجم مع قانون التغير وتحاول أن تستوعب مختلف ظروف الحياة الجديدة ولها نظرة ثقافية في استشراف المستقبل، فما دامت هي ذلك الجهاز الذي ينسج الشخصية ويبلور ملامحها ونمط تفكيرها وبالتالي يحدد طريقة تصرفاتها وسلوكياتها فإنها مطالبة بالتجديد والتكيف الدؤوب مع منطق التغيير الذي هو قاعدة المجتمعات الإنسانية، هذا دون الانسلاخ عن الهوية أو الجذور دون إحداث القطيعة مع التراث، بل إن إحياء هذا التراث هو شرط للانعتاق بالذات وشرط للهجوم بثقافتنا على الآخر، لكن كيف نحافظ على التراث بأية آليات وبأي مخطط وبأي مشروع ؟

آليات المحافظة على التراث
        حاولنا بناء جزء هذا المحور المرتبط بآليات المحافظة على التراث بناء على قراءات كتبية وملاحظات وتأملات يومية أرست بنا في آخر المطاف إلى تحديد أهم الخطوط العريضة للمحافظة على تراثنا الثقافي.
        والحديث عن الحفاظ يعني تناول السياسات والتشريعات والخطط والبرامج التي ينبغي إن تضطلع بها الجهات المختصة والمؤسسات العلمية والثقافية في مجال التراث ويعني ذلك الحديث عن الجهود التي تخدمه حفاظا وإحياء ذلك لأن الحفاظ على التراث مسؤولية عامة لأنه ملك الناس قاطبة وليس الفرد أو فئة [5]
        للمحافظة على التراث الثقافي في مجتمعنا لابد أن يصدر القرار من الجهات الوصية به في المقام الأول، وأقصد بالضبط الدولة المغربية إذ انه وبدون المصادقة على قانون يحمي المخزون الثقافي ويشجع البحث العلمي في هذا الصدد ستصبح عملية إحياء التراث معقدة فما بالك بالمحافظة عليه.
        على الدولة أن تهيئ أرضية خصبة لمشروع إحياء التراث وحفظه من الاندثار عبر إنشاء بنية تحتية مناسبة ( مؤسسات ومركبات ووسائل التنقيب والحفر المعرفي في التراث الثقافي ..)وكذا تكوين باحثين مؤهلين وأكفاء في البحث والتنقيب المعرفي في هذا المجال ودعهم ماديا ومعنويا لتقديم أفضل ما عندهم.
        من الضروري نشر الوعي بأهمية المحافظة على التراث الثقافي وبدعم الجمعيات المدنية المعنية بالبحث في هذا الصدد ويجب إشراكها في وضع مخططات ومشاريع المحافظة كما يجب تنويع مجالات البحث واعتماد خطة منهجية منظمة لذلك عبر تبويب وتصنيف مواد البحث والتعامل معها بمنطق الغربلة والنقد والفحص العلمي الدقيق
        لابد من التوثيق السمعي والبصري لأهم الأحداث والطقوس الاحتفالية والأنشطة الثقافية وذلك لحفظها للأجيال القادمة من جهة وقياس مدى التطور الذي يخطوه مجتمعنا من جهة ثانية.
         يجب التحسيس بأن فقدان معلمة أثرية أو تاريخية يعني فقدان مهمة شاهدة على الإبداع في المجتمع وخسارة لجذور المعرفة اللازمة لبناء المستقبل كما يجب تقدير أهمية التراث وتحديد عملية الحفاظ عليه بالاستناد إلى معايير أربعة أساسية وهي كما عرضها الأستاذ عبد الله الحفاظ/
·       معيار القيمة الجمالية وذلك بالاستناد إلى معايير ثقافية التي تحدد الذوق السليم
·       القيمة التاريخية  من خلال مدى تعبير التراث عن نشاط إنساني أو عن مرحلة تاريخية
·       القيمة العلمية عبر ما يقدمه من معارف نادرة أو دالة على تطورات تقنية أو إنتاجية أو ما شابه
·   معيار القيمة الاجتماعية ومن خلال ما تضفى على الأثر من أهمية اجتماعية أو دينية كالمزارات والأضرحة..[6]  
        يمكن القول من خلال ما سبق بأن العودة إلى التراث شرط لا مناص له لتحقيق الانطلاقة الحقيقية لبناء المشروع الحضاري وبناء حداثة عقلانية متنورة من الداخل تعيد الاعتبار للمحلي وتغربله وتنتقده  فهما وتفسيرا بغية اكتشاف المواقف الإيديولوجية الايجابية لمواجهة الاستعمار ومحاربة التخلف وتقويض النزعة المركزية الأوروبية من جهة أخرى.
         يجب علينا الانعتاق بثقافتنا والإيمان بمبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع / والهجوم بثقافتنا لا يمكن أن يتم إلا بإحيائها والتعريف بها وفرضها بالقوة بعد غربلتها وتجديدها وتطويرها.





[1]د.مصطفى تيلوا، الثقافة والتنمية في إقليم الرشيدية أية رهانات، موقع" تنمية.ما"
[2] نسبة إلى عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر الذي ركز على العامل الثقافي في نشأة وتطور الرأسمالية وقد عرض أفكاره في كتابه الشهر الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية
[3] أنتوني جيدنز، علم الاجتماع، ترجمة وتقديم فايز الصياغ، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، ص 70
[4] آدم كوبر ، ترجمة تراجي فتحي، الثقافة التفسير الأنثروبولوجي، مجلة عالم المعرفة، عدد مارس 2008
[5] د. يوسف محمد عبد الله الحفاظ على الموروث الثقافي والحضاري وسبل تنميته ص 10
[6] المرجع السابق ص 12

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشعر الأمازيغي "باهبي ونماذج من أشعار أيت مرغاد"

  يعتبر الشعر أو "تامديازت" الشكل الأكثر تعبيرا عن حياة الإنسان الأمازيغي وفلسفته في الحياة، الشيء الذي يكشف عن غنى هذا الشكل الأدبي شكلا وعلى مستوى المضمون أيضا، فقد عني الإمديازن أو الشعراء الأمازيغ عناية فائقة بتقديم قصائدهم بقالب جميل الشكل غزير المضمون، وقام التنافس على أشده ولم يقعد بين كبار الشعراء الأمازيغ في مختلف المناطق التي يستوطنوها، بل إن التنافس وصل حد التراشق بالكلمات المصقولة أمام الجماهير في الأعراس والاحتفالات الطقوسية وفي مختلف التجمعات القبلية الأخرى.

مواصفات المقاول الناجح

ما دمت إنسانا يمتلك العقل والإرادة فأنت قادر على النجاح، لكن، يلزمك اتباع بعض أسس التفكير المنتج والذي من شأنه قيادة مشروعك لتحقيق النجاح. في هذه المحطة سنتحدث عن أهم مواصفات المقاول الناجح، بدونها يصبح المشروع مهددا بالانهيار في أي وقت، وهذه المواصفات هي كالآتي: 1- الثقة بالنفس: بدون الثقة في الذات يصعب عليك الإستمرار في بناء أي مشروع كيفما كان، فالثقة – هنا - عنصر هام لا محيد عنه في نجاح المشروع، والثقة ليست كِبرا ولا غرورا، بل هي الواقعية والالتزام في العمل وفق خطة محكمة معدة سلفا، كما أنها إيمان قوي بقدرة الذات على قيادة سفينة المشروع إلى بر الأمان رغم التحديات والعراقيل التي ستواجهك في الطريق. 2- الرغبة والقدرة: ونعني بـ"الرغبة" هنا توفر الإرادة الجامحة لإنجاح المشروع والتحفيز الذاتي المستمر والتفكير الإيجابي لحصد النتائج وتجاهل التسويف والمماطلة والتأجيلات. وأما "القدرة" فنعني بها القدرة على التعلم وشغف البحث والإطلاع في مصادر المعرفة المتنوعة والواسعة والتي من شأنها دعم معرفتنا وإغنائها لتزيد رؤيتنا وضوحا. فالمعرفة قوة والقدرة على تحصيل

أهم نظريات التنشئة الاجتماعية

النظرية البنائية الوظيفية : ويمكن القول بأنها نظرية تستمد أسسها من النظرية الجشطالتية في علم النفس و التي تدور فكرتها المحورية حول تكامل الأجزاء في كلّ واحد، بتحليل العلاقة بين الأجزاء و الكل، بمعنى أن كل عنصر في المجموعة يساهم في تطور الكل. فأصحاب هذه النظرية يرون في الأفراد و الجماعات أو أي نظام أو نسق اجتماعي يتألف من عدد من الأجزاء المترابطة، و بالتالي فان كل جزء من أجزاء النسق يكون وظيفيا، تماما كجسم الإنسان يتكون من مختلف الأعضاء ولكل جزء وظيفته [1] . و تشير النظرية البنائية الوظيفية؛ إلى أن كل أسرة نسق فرعي للنسق الاجتماعي، تتفاعل عناصره للمحافظة على البناء الاجتماعي وتحقيق توازنه. وتركز هذه النظرية على العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة و الوحدات الاجتماعية الكبرى، من خلال الدور الذي تؤديه في عملية التنشئة الاجتماعية للأعضاء الجدد في المجتمع . نظرية التحليل النفسي: ترى مدرسة التحليل النفسي، أن الجهاز النفسي للفرد يتكون من الهو والأنا والأنا الأعلى [2] . ويمثل الهو الجانب اللاشعوري من شخصية الفرد، وبالتالي فهو يميل إلى تحقيق غرائزه الفطرية؛ من مأكل ومشرب وجنس...الخ. ل