تعد العنصرية الاثنية من العناصر الخطيرة في بنية المجتمع الواحي الفركلي، وترتكز أساسا على الافتخار بالانتماء إلى هذه الإثنية أو تلك، وحسن معدنها وأصالتها وأصالة من ينتمي إليها، في مقابل الاثنيات الأخرى الممثلة لقيم الانحطاط والتخلف والانحدار الثقافي والاجتماعي.
وترجع جذور عنصرية الجماعات داخل الوسط الواحي الفركلي إلى عهود الاستعمار، الذي تم فيه خلق البلبلة النفسية بين مكونات فركلة الاثنية على حد تعبير بعض المبحوثين، والواقع أن عنصرية الجماعات بواحة فركلة متغلغلة منذ الزمن السحيق في ذهنية إنسان هذا المجال؛ إما دفاعا عن مصالح القبيلة، الاثنية، الماء، الأرض، العرض، المراعي. وإما دفاعا عن إيديولوجية الجد المشترك الذي تستمد منه الجماعة كبرياء وحس الانتماء.
و إذا كانت الدراسات العلمية الحديثة والأنثروبولوجية قد أكدت عدم وجود سلالة أو جنس خالص ونقي، فإن الحديث عن جماعة اثنية خالصة داخل الحقل الفركلي حديث خرافة ووهم " فليس هناك من يضمن انتقال الدماء صافية من السلف إلى الخلف " على حد تعبير ابن خلدون، وبالتالي فالحقل الفركلي الذي لا يزال يتغنى بالانتماء الاثني من خلال استمرار التسميات " شريفي، حرطاني، مرابطي، أو مرغادي.." وكذا من خلال استمرارية التقوقع الاثني بين مختلف مكوناته؛ إنما هو في واقع الأمر صورة مصغرة لمجتمع تقليداني لا تزال بنيته الفوقية أسيرة الأعراف والتقاليد البالية والأفكار القبلية التي علاها الغبار في أكثر المجتمعات تحضرا وتطورا وعصرنة.
و إذا حاولنا التعمق قليلا في أسباب عنصرية الجماعات داخل الحقل الفركلي، نجد أن الاختلافات البيولوجية بين بعض اثنيات الواحة، فضلا عن المكانة الاجتماعية التي تحتلها كل واحدة منها في سلم التدرج الاجتماعي والتي( المكانة الاجتماعية) تستمد عادة من طبيعة المهن المحترفة، والمراكز والأدوار الاجتماعية التي تشتهر وتختص بها كل جماعة اثنية بالواحة؛ قد ساهم في انبثاق الأفكار التنميطية- الاحتقارية للآخر المختلف. فالمكانة الاجتماعية "الحضيضية" التي تحتلها جماعة "اقبليين" هي التي أملت على المخيال الفركلي احتقارهم، عبر تبخيس كل ما هو مرتبط بهذه الجماعة؛ كلون بشرتهم وكثيرا من سماتهم الثقافية، ولا أدل على ذلك أن الهابيتوس أو نسق الاستعدادات النفسية والاجتماعية التي تحملها معظم جماعات الواحة في تمثلاتها العامة لجماعة اقبليين؛ لا تزال تنظر إلى هذه الجماعة بنوع من الاحتقار والتبخيس، ويبدو أن للوضعية الاقتصادية التاريخية المتقهقرة دور كبير في ذلك ؛ "فإقبليين" هم خماسة الواحة قديما، والعادة أكسبت الناس النظر باحتقار إلى ممتهني مثل هذه النماذج من الأعمال، فكان تاريخ " إقبليين " تاريخ معاناة سيكولوجية داخل مجتمع متخلف ومقهور، وهذه عقدة تاريخية ظلت تلازم "حراطين" اليوم (سنخصص لهذا الموضوع حيزا خاصا ومستقلا).
و إذا انتقلنا إلى جماعة "الشرفاء" فهي على خلاف "اقبليين" يتمتعون بمكانة اجتماعية لائقة، وترجع جذور هذه المكانة إلى الأساس الديني"المقدس"، الذي ضمن لشرفاء واحة فركلة حياة مستقرة على الأقل من الناحية السيكولوجية والمعنوية، بحيث أن الانتماء إلى "مولاي عبد العزيز" بمثابة رأسمال رمزي احتكرته هذه الجماعة لسنين عديدة، الأمر الذي جعل شرفاء اليوم يبحثون عن الوسائل الممكنة للحفاظ على هذا الامتياز المستمد من الانتماء الشرفاوي، وبالتالي على تلكم المكانة الاجتماعية اللائقة، ويبدو أن هذا التوجه قد طوح عديد الشرفاء في القوقعة الاثنية والانطوائية وكبرياء الانتماء، ولعل استمرارية التسميات التي تبتدئ ب" مولاي " يتجه لتأكيد هذا الطرح، وهذه محاولات يبدو أنها يائسة من جانب شرفاء الواحة في إعادة ذلكم التوهج الاثني المتقهقر أمام المتغيرات الموضوعية التي مست الحقل الفركلي، تحت تأثيرات العولمة وحلول الرأسمال الاقتصادي محل الرأسمال الرمزي.
بخصوص جماعتي " إمازيغن " "وأيت باعلي أوحماد " فالأولى معروفة بأصولها المتعددة ( على اعتبار أن أصل جماعة إمازيغن بفركلة ليس واحدا ) وهذه الأصول قد أثرت على تراكيب هذه الجماعة من خلال اختلاف عقلياتهم وتوجهاتهم ومواقفهم تبعا لجغرافياتهم الثقافية وشخصياتهم القاعدية، والحال أن جماعة إمازيغن ظلت على العموم محايدة في الصراعات الرمزية والمادية التاريخية التي كانت واحة فركلة مسرحا لها.( مع حذر وتحفظ نبديه ابستيمولوجيا في هذا الصدد، في ظل غياب وثائق شاهدة..). أما جماعة "أيت باعلي أوحماد" وهي المعروفة بتقوقعها حسب مجتمع البحث فهي في الآن ذاته أكثر جماعات الواحة تعرضا للتمييز العنصري على أساس الانتماء الاثني، إذ لا تزال العقلية الفركلية تنظر إلى " أوباعلي أوحماد" كحفدة ليهود أسرير.
و إذا انتقلنا إلى جماعة المرابطين أو " إكرامن" فهم والحق يقال أقل جماعات الواحة ممارسة لفعل التمييز بشهادة مجتمع الدراسة، ولعل ذلك راجع إلى دورهم التاريخي القائم على الإصلاح وحل النزاعات بين مختلف القبائل المتصارعة قديما بواسطة شيوخ الزاوية ، كما أن لجغرافية هذه الجماعة أثر في ذلك على اعتبار أنها منعزلة قليلا عن مركز الحيوية الاجتماعية والثقافية المشترك بين جماعات الواحة ( فركلة السفلى خاصة).
إن عنصرية الجماعات بواحة فركلة هي حصيلة الماضي الهمجي الذي ترعرعت في كنفه ذهنية إنسان ذلك المجال،وإذا كانت الظاهرة تتخذ لنفسها قديما صورا واضحة مباشرة وتنزل من الفوق إلى القاع عمودية غير مكترثة بالنتائج. فإن الحديث عن عنصرية الجماعات آنيا لا تعرف جلادا محددا ولا ضحية محددة ، فالكل يمارس العنصرية والكل يتعرض لها، غير أن الاختلاف هنا اختلاف في الدرجة والشكل، بحيث أن الحديث عن العنصرية بواحة فركلة هو في الحقيقة حديث عن عنصريات يحتل فيها الانتماء واللغة والمجال قيمة زائدة.
إن الهدف من عرض هذا المسلسل على شكل حلقات صغيرة ليس للتسلية وملء أكناف وجنبات المنابر الإعلامية بالضجيج والفوضى، و إنما لإثارة الحوافظ و تعرية الكائن والتفكير في الممكن، لتجاوز هذا الوهن السيكوثقافي العويص الذي يحكم العلاقات الاجتماعية بفركلة، ويسمها بالتعقيد والنفاق الاجتماعي. فالحقل الفركلي العليل يحتاج اليوم وليس غدا إلى التشخيص والحوار العمومي الهادف الخلاق بين مختلف مكوناته المثقفة التي تبرع في الحوار وتجيد التواصل البناء الفاعل لا المنفعل، لكشف عورة هذا المجتمع الذي هزته التشنجات الحاكمة للاشعور الجماعات. والرهان من خلال هذه الرسالة هو كشف المستور وتشخيص المرض فالبحث عن الدواء لهذه المشكلة، وبالتالي السمو بالعلاقات الاجتماعية بفركلة وتجاوز الأحكام المحنطة- المعيارية التي تزدري جماعة و تمارس على أخرى دور الوصاية والقهر الرمزي.
تعليقات
إرسال تعليق