التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عرض حول فصلين من كتاب : المكان و السلطة لبول كلافال / ترجمة د.عبد الأمير ابراهيم شمس الدين




تقديم :
يثير عنوان هذا الكتاب منذ الوهلة الأولى عدة تساؤلات ، إذ يكتنفه الغموض الناتج عن سذاجتنا الأولية بما تحويه دفتيه من أفكار ومضامين ، والواقع أن جوهر" المكان و السلطة " على حد تعبير الدكتور "عبد الأمير إبراهيم شمس الدين" يتضمن استعراضا شيقا للمجتمعات في بنائها وارتقائها من الأسرة إلى العشيرة والقبيلة و الدولة البدائية ثم الدولة واتحاد الدول (...) من جهة . كما يعرض فيه  "بول كلافال" من جهة أخرى لكيفية بروز السلطة في القديم قبل الحضارات
/  ثم في عصرها وبعدها ، والأشكال التي اتخذتها و الأصول التي نبتت منها ، ومنها ما يكون نابعا من أديان سماوية وقوى عليا  لها وكلاء على الأرض يمارسون فيها سلطتهم تارة في جو من السلام وتارة أخرى في جو من العنف ، أو عن إيديولوجيات وعقائد موروثة تغلفها طقوس وشعائر، أو تكون ناشئة عن تركة موروثة لسلالة أو عرق تغذيها مصاهرات ومحالفات..أو تكون نتيجة صراع وثورات أو ايديولوجيات سياسية وقومية؛ إن نتيجة لامتلاك الأراضي أو موارد الطاقة أو التقدم التقني ، وكلها مواضيع شيقة تجذب  القارئ لقراءتها وتفتح أمامه أفقا واسعا من المعرفة بالسلطات و أنواعها من دكتاتورية استبدادية أو إقطاعية أو ليبرالية أو اشتراكية ثم شيوعية ووجههما البارز الكليانية .
أما فيما يخص المكان ودوره في هذا الكتاب فيرى بول كلافال بأن لجغرافية المكان و مناخه وحدوده  وغيرها من الأمور تغير من شكل تمثلاتنا للمجتمع  ومن ثم السلطة أي أن للمكان تأثير كبيرا على قيام السلطة واستقلالها. ويرى بأن تاريخ المجتمعات هو تاريخ تنظيم وبناء وإعادة تنظيم وبناء المجال، و الذي ما هو إلا إعادة لتنظيم السلطة؛  حيث يربط كلافال المكان بالسلطة على اعتبار أن هناك نوعا من العلاقة الجدلية بين المفهومين كما سنرى فيما بعد .
يعلمنا كلافال في هذا الكتاب بأن للمكان سلطة وقدرة على التأثير و الفعل اللامحسوس و  اللامادي ، حيث ينتظم المكان على أشكال ونطاقات يحد من حرية الأفراد ويخضعهم  لنمط جديد للحياة المنظمة التي تمليها طوبولبوجية المكان الذي يقيد استقلالية الاختيارات.
تساؤلات العرض ؟
لطالما شكل مفهوم "السلطة" سجالا بين الفلاسفة ورجالات الفكر قديما وحديثا إذ يندرج ضمن الإشكاليات المعقدة المستعصية على الفهم و التحليل بوصف  السلطة مفهوما زئبقيا يتخذ أشكال متعددة وفقا لمتغيرات الزمان و المكان .
إن السلطة هي غاية الغايات..  فمن يمتلك السلطة يسعى للحفاظ عليها  ومن لا يمتلكها قد يسعى جاهدا لامتلاكها  من اجل الإخضاع و الهيمنة،  فالسلطة بهذا المعنى رأسمال رمزي يستهوي  الجميع،  ما يفسر اندلاع ثورات وحروب مدمرة على مر التاريخ وتعاقب الأجيال بغية الهيمنة و الوصول إلى السلطة العليا .
و الواقع أن السلطة بهذا المعنى قد ماتت تقريبا في المجتمعات الحية لكنها لا تزال حية في المجتمعات الميتة " العوالم المتخلفة "  حيث تنزل عمودية من الفوق إلى القاع . ومع بول كلافال سنرى استعراضا لكيفية بروز السلطة واتخادها لشرعيتها السياسية و الاجتماعية  اعتمادا على الإرث الفيبري في هذا الصدد و الذي ميز بين ثلاثة أنماط من السلطة ؛ الأولى تستمد شرعيتها من التقليد و الثانية من كاريزما السيد و الثالثة من العقل ، وسنرى مع كلافال  باعتماده على هذه المعطيات كيف سيربط كل نموذج بمجتمع- أي بمكان له خاصياته وشروطه الموضوعية الخاصة ، كيف يحلل أسباب سقوط هذه المجتمعات بسبب تأثيرات المجال .
إذا كيف تنشأ السلطة وكيف تؤثر على المجال وكيف يؤثر المكان على قيام السلطة واحتلالها المكان  وما هي أهم الخاصيات المميزة للمكان الفاعل القادر على التأثر و الهيمنة ؟

محاور العرض:
الفصل الأول : المجتمع و السلطة
·       جذور السلطة
·       المكان ، الحياة الاجتماعية والسلطة
         الفصل الثاني : هندسة الأشكال الأولية للسلطة
·       السلطة البحتة والمكان
·       الولاية
·       التأثير الإيديولوجي
·       التأثير الاقتصادي
 خلاصة تركيبية

الفصل الأول : المجتمع و السلطة
في هذا الفصل يتحدث بول كلافال عن الجغرافية السياسية ؛ إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل  أثر المسافة و الامتداد في تأثير بعض الأفراد وفرض إرادتهم على الآخرين ، ورغم أهمية هذا الموقف إلا أن الحدود المكانية تختلف من حيث تأثير الأفراد عليها؛  " فهناك أمكنة لا تخضع للهيمنة و السيطرة."
في هذا الفصل كذلك يحاول بول كلافال أن يوجد طريقة جديدة لتحليل السلطة وذلك برؤية علمية جديدة ترى في المكان و السلطة نموذجا لبناء جغرافية سياسية تنبري لتحليل مسار السلطة في المجتمعات الإنسانية.
وقد اعتمد صاحبنا في هذا الصدد على الإرث الفيبري الذي حدد أصل الولاية و السلطة من خلال تمييزه بين ثلاثة أنماط من السلط وهذا ما سنتطرق إليه  لاحقا .. و الهدف طبعا من كل ذلك كما عبر عن ذلك كلافال نفسه هو "..محاولة فهم أهم مظاهر الجغرافية السياسية لنتفهم البنية المكانية للمجتمعات، وندرك فعل اللاتناسق الذي يحد ممارسة الحرية وفي نفس الوقت يحميها.
إن الدرس الكبير الذي نأخذه من وقائع  السلطة، هو أنه لا يوجد في نطاق المكان حرية بدون حد أدنى من التنظيم، لكن هذا التنظيم هو تهديد لكل شخص ويقيد استقلال الاختيارات: إن ارتهانات الإنسانية الحديثة ترجع في أصلها إلى تطور السيطرة ، الضرورية مع ذلك لتكوين مساحات واسعة الحركة وسهلة الانتقال.
1)   جذور السلطة :
في محاولته بحث جذور السلطة اعتمد بول كلافال كثيرا على أبحاث ماكس فيبر الذي ميز بين ثلاثة أنماط من السلط:
نمط السلطة الكاريزماتية:  حيث تكون العلاقة غير متكافئة، " فالآمر" لا يخضع تماما لمن يقودهم وبإمكانه أن يستخدمهم كوسائل ليصل إلى غاياته المرسومة، يتصرف بإعطاء الأوامر وجعل هذه الأوامر منفذة بدون معارضة.
أما في نمط السلطة التقليدية : فتكون فيه ممارسة السلطة سهلة عندما يقبل الخاضعون لها الوضع كما لو أنه صادر عنهم ويعترفون بشرعية السلطة.
في حين أنه في نمط السلطة العقلاني:  فيتم الخضوع للسلطة بعقلانية ؛ اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب .
لا ينظر بول كلافال إلى المجال نظرة ضيقة بوصفه مجرد تنظيم فيزيقي مادي، و إنما هو أيضا ثقافة مرجعية وشخصية قاعدية بعبارة علماء النفس، وهذه الثقافة المرجعية هي التي توفر للطفل و للناشئة الحب و الأمان و التأقلم  وكل ما يمكنه من تطوير ملكاته ومؤهلاته، ومن جهة  أخرى هذه الثقافة المرجعية هي التي تخضع الطفل للتجربة الغامضة لعلاقات السلطة وهنا إشارة واضحة لتأثير المجال على الأفراد بدءا بإرادة  ذويه،  وإرادة ذويه تستمد من إرادة الثقافة المرجعية  التي تنتمي إليها هذه الأسرة ، و بالتالي فالسلطة موجودة في المجال أصلا وهي التي تجعل الطفل و الناشئة الجديدة تتأقلم وتتكيف مع معطيات و أهداف هذا المجال و الذي ما هو إلا ثقافة تستمد من قاطنته.
على صعيد آخر  يعتبر كلافال بأن السلطة هي النتيجة الطبيعية لأشكال اللامساواة الاجتماعية وتأخذ السلطة بعدها الاجتماعي في أشكال المنازعات التي تنشأ بين الطفل و أبيه وبين مختلف الفاعلين في المجتمع أو التنظيم .
ويمكن للسلطة إن تنشأ إلى جانب تلكم العوامل السالفة الذكر من الإكراه المادي كذلك وذلك بفرض الأقوياء لإرادتهم على الضعفاء،  هذا فضل عن قوة التأثير حيث يكون لبعض الناس القدرة على التأثير من خلال قوة الخطاب نموذج هتلر و موسوليني.
و إذا كانت للسلطة جذور و أسس موضوعية أو رمزية ترتكز عليها لتؤسس مشروعيتها على صعيد المجال فإن للمكان بدوره تأثير وسلطة يمارسها على الأفراد ، فالمحيط قد يقف عائقا في وجه مبادرات الناس عندما يكونون منعزلين حيث لا يستفيد هؤلاء من بعض المشاريع المنجزة، يعتبر بذلك التنظيم و الاندماج وسيلة مثلى للاستفادة من المجال و خصائصه التي لا تحصى، فإذا كانت العلاقات مؤسساتية كانت نتائج الاستفادة من المجال جيدة لكن هذا بالمقابل يفتح الباب للأشكال الاجتماعية للسلطة ( الفاعل الاستراتيجي بمفهوم ميشيل كروزيي )حيث أن القواعد التي تحكم العلاقات ليس محايدة دائما، فهي تسمح للبعض بمراكمة المنافع على حساب الآخرين وهذا الوجه المنحرف للسلطة لا يجوز، لهذا اقترح كلافال القبول بسلطة تسلسلية شرعية تحترم حقوق كل فرد . وهذا هو المنطق الذي تتأسس عليه "الولاية ".
2)   المكان، الحياة الاجتماعية و السلطة
يرى بول كلافال بأن المكان يتدخل بأشكال مختلفة في الحياة الاجتماعية منها " لعبة السلطة " .
"يتدخل المكان في حياة التواصل و التنقل ويشكل قاعدة للنشاط الرمزي وسنتطرق في هذا الشق إلى ثلاثة أشكال يتدخل فيها المكان ويؤثر في الحياة الاجتماعية ":
·       المكان هو دعم للحياة وللنشاط ويتدخل بالمدى : وهنا إشارة إلى جغرافية المجال وتأثيره في الزراعة أو الاستثمار أو استخراج الثروات و إقامة التجهيزات ونحو ذلك وكذا لتلكم الجغرافيات التي قد تستعمل لعدة أغراض وبدون عوائق تذكر ، وهناك أراضي مزروعة تكون مقفلة في وجه القطعان  و المنتزهين ( سلطة المجال ).
كما أن التعامل مع بعض المجالات يستدعي حدا أدنى من التنظيم ( احترام متطلبات الزراعة ، الغابات = وهذا يدرج المجال كمصدر خصب للتزود بضروريات الحياة ، لهذا  يستدعي حالة من التنظيم الأكثر دقة عندما تكون موارده نادرة.
عندما يتزايد عدد السكان " الضغط " ويصبح الضغط على الأرض شديدا لا يعود  بالإمكان ترك الوصول إليها سهلا وقد أصبحت نادرة بتخطيها إلى أفراد أو جماعات محدودة .
يستلزم التعامل مع المجال الزراعي الاهتمام بجودة الأرض  ومعالجتها من الأعشاب الضارة ، و بالتالي فهذه الأرض تمارس سلطة على مربي الماشية المطالب بتحصين حاضرة ماشيته من أجل تلافي إتلاف المحاصيل.
لقد أصبح من يمتلك الأرض  يمتلك السلطة و التأثير وذلك عبر تحويل المجال إلى مصنع أو تنظيم وقد ينتج عن ذلك آثار خارجية وهامشية ( إزعاج الساكنة مثلا ) من هنا جاءت التشريعات المدينية حول تقسيم المدن إلى مناطق وغايتها أن تحد من هذه الآثار السلبية الناتجة عن الاستخدامات غير المراقبة
·       المكان حاجز أمام التواصل : وهنا إشارته إلى تلك الجغرافيات ذات الحدود التي تمارس دور الوصاية و الضغط و التأثير على تنقل الأفراد و السلع حيث تجعل من عملية التنقل كثير الكلفة ( تخطي الحدود أضحى أمرا صعبا ) .
المكان أيضا يعيق تنقل المعلومة حيث لا يتم الاتصال جيدا إلا بعد الفرز المرتبط بالترميز وفك الرموز للرسائل مع أقل خسارة في الخطوط ، وهنا يشير كلافال لدور مراكز ربط الشبكة في المدن و الذين يكونون في مراكز أفضل من غيرهم ، حيث يتمركزون في أعلى مستويات النظام التسلسلي . " إن إقامة بنى تحتية للتنقل و  الاتصال يولد إذا تنويعا في المكان يعطي بعض الأماكن مزايا بالنسبة للأخرى ، هذا مصدر اللامساواة و التأثير " ص 23
·       المكان قاعدة للنشاط الرمزي : حيث تتأثر الحياة الاجتماعية في نظره بوجود أنظمة إشارات معروفة لمن يتواجدون على اتصال وهذه  الإشارات هي التي تسهل  تبادل المعلومات وعقد  المحادثات و التغلب على القلق  الذي يولد العزلة. وتختلف الرموز التي تعقد وترتكز  عليها المبادلات ( اللغة) تعطي للفرد إمكانية التعبير ، وتكتسب هذه الأشكال الاعتباطية خلال التكيف و التأقلم الثقافي و الاجتماعي، لهذا تبقى حسب كلافال أنظمة الاتصال عادة حبيسة مساحات ثقافية ( حيث الرموز مشتركة بين الجميع ومعروفة ) .
وعلى هامش المساحات تتغير الإشارات و الرموز وينبغي بذل جهد في الترجمة و التفسير و الفهم و التعلم لفهم الرسائل ومضامينها . لهذا  فالحياة الاجتماعية ككل تجد نفسها متأثرة بهذه التقاطعات الكبرى للمكان الإنساني .
إلى جانب التبادل الرمزي ( التواصل) هناك تواصل مادي اقتصادي ( النقود ) التي تنشط الحياة الاقتصادية لكن هناك في نظر كلافال نقود أثمن من نقود الاقتصاد  " فكل الأعمال تتلون بقيمتها المعنوية " وهنا إشارته إلى  القيمة الرمزية للحظوة أو النفوذ فهي في نظره تشكل نقودا غير مرئية لكنها مرغوب فيها كالذهب .
ويعتقد كلافال بأن الحظوة على الرغم من أهميتها إلا أنها أكثر تعقيدا وغموضا  إذ تأخذ بحسابها مميزات كل حضارة ، كل نظام للقيم ، وبالتالي فهي تبقى محصورة في أماكن ضيقة .
إن تمثل المجال يختلف من شخص إلى شخص  وفقا للقيمة التي يحتلها هذا المجال في حياة الأفراد أو الجماعات، حيث يتحول المجال إلى صورة عقلية  مهمة في حياة الإنسان .


الفصل الثاني : هندسة الأشكال الأولية للسلطة
وفيها ما يلي :
·       السلطة البحتة و المكان
·       الولاية
·       التأثير الايديولبوجي
·       التأثير الاقتصادي

فاعلية السلطة في نظر كلافال كانت محدودة عندما قامت على العرف أو التهديد بالقوة المادية. وعلاقة الولاية هي أكثر توفيرا للحرية لأنها تستخدم بفطنة أكبر تدفقات اتصال – لكنها تقوم على اتفاق مشاعر ترجع إلى التأثير الإيديولوجي.
أما التأثير الاقتصادي فيرتبط حسب كلافال في الاقتصاديات المفتوحة بالشكل الخارجي للمراكز الاقتصادية، فئات قليلة هي المحرومة منه لكن هذا لا يعني بأنه موزع بنفس الشكل .
1)   السلطة البحتة و المكان :
السلطة البحتة ( الشكل البسيط لممارسة السلطة الاجتماعية = العلاقة القائمة بين رئيس قادر على فرض قوته  بالإكراه و الذين هم خاضعون له، لا يتلقى المخضوع بالمقابل أي شيء ولا مصلحة له في الوضع)
تكون السلطة البحتة فعالة كلما ترافقت مع رقابة مستمرة أو فرضت خوفا يضاعف من فاعلية هذه الأخيرة.
لكي تبلغ هذه السلطة غايتها يقتنص الأمر تطبيقها في كل مكان بدون ثغرات وفراغ. " يجب أن تغطي بنفس القوة كل الحقل الذي  ينتشر فيه نشاط الذين هم موضع المراقبة ".
تتطلب إذا ممارسة السلطة تنظيما خاصا للمكان " قيمة الحراسة أو المراقبة " و أهمية قسيمة المكان إلى تقسيمات صغيرة كلما أراد " السيد " أن يحكمها ومن هنا أهمية التقسيم الإداري لمراقبة التحركات ، ( هذا هو نموذج للدول الاستبدادية حيث تنزل السلطة عمودية من الفوق الى القاع لتخضعه و تهيمن عليه ...)
إن تمفصل المكان إلى مساحات محددة جيدا في نظر كلافال متلازم مع السلطة البحتة . فبدون هذا التقسيم التربيعي تبقى أوامرها غير مطابقة ، لأن الجماعة كلما شعرت باستطاعة الإفلات بدون مخاطرة فعدم الخضوع يزيد شيئا فشيئا .
وتتطلب ممارسة السلطة البحتة مجهودات كبيرة وتكاليف باهظة فالسهر على مراقبة الأمكنة باستمرار ليس أمرا سهلا وخصوصا كلما ارتفعت كثافة السكان وتزايدت عبر المكان .
تأخذ الأوامر طريقها من الأعلى إلى الأدنى عن طريق الإعلام ( أي عن طريق من يفوضهم صاحب السلطة بالإشراف على نقل المعلومات... الوسطاء لهم مصلحة  في المحافظة على بعض ما يعرفوه لأنفسهم وهنا يضطر الحاكم المستبد لتعيين جواسيس يراقبون من عهد عليهم بالإشراف . وهذا في نظر كلافال يضعف من مسألة  صعوبة نقل المعلومة أو تنقل بطريقة غير كاملة، وهكذا تنقص فاعلية النظام بتزايد المسافة إلى المركز الرئيسي. ( صعوبة نقل المعلومات كاملة إلى المركز وراء انتقاص فاعلية النظام و بالتالي ضعف السلطة البحتة ..)
إن السلطة البحتة غير قادرة أن تعطي من يمارسها ثمرة السيطرة السهلة على أمكنة واسعة ومجموعات كثيرة.
1)   الولاية :
بعد عرضه لعلاقة السلطة البحتة ومنطقها الذي يقوض نفسه بنفسه يعرض بول كلافال لعلاقة الولاية، و التي يبدو فيها السيد كمالك لولاية شرعية ، فهو ليس مطالبا بأن يراقب كل شيء ؛ لأن القواعد التي ينشئها يقبلها الجميع وتدخل في ضمائرهم ؛ كل واحد  منهم يقبل الأوامر وينفذها بدون حاجة لقوة مادية تهدده، أو لمن يشرف عليه ويجبره بالقوة .
ولمعرفة حالة تقدم وسير المهام لا يكون السيد في هذا الوضع ملزما بإقحام جواسيس أو شبكة لجلب المعلومات لتراقب ، فعلاقة السلطة هنا ليست عمودية بحتة و إنما تسود علاقة ثقة بين من يحكم ومن ينفذ .
رغم أهمية علاقة الولاية إلا أن المشكلة الكبرى التي تطرحها تتجلى أساسا في الحصول المسبق على الضمائر ؛ " فعلى الأطراف أن يقبلوا بتفويض  الحق  بالتقرير الذي يملكونه عادة " .
ترتكز الولاية  على موافقة عميقة؛  ينتقد الرئيس إذا كان غير كفء لوظيفته لكن مبدأ تفويض السلطة لا يكون موضع اتهام ( معظم الثورات التي شهدها التاريخ السياسي لا تصب أبدا في خانة تغيير البنية فأسبابها عدم كفاءة الأسياد و الحكام و لم تولد من الرغبة في تغيير النظام ..)
ما أصل الولاية ؟
يفسر كلافال أصل الولاية اعتمادا على أبحاث ماكس فيبر الذي ميز بين ثلاثة أنماط من السلطة كما سبق و أن تطرقنا إليه في إحدى المحاور السابقة :
فالمصدر الأول يرى بأن أصل الولاية هو " التقليد " حيث تؤول الولاية وفقا للعرف  إلى هذا الفرد أو ذاك أو إلى هذه العائلة أو تلك  او لهذه المؤسسة أو تلك.
المصدر الثاني يرى بأن أصل الولاية هو الرئيس" الريادي" أو الكاريزماتي  القادر بالتدرب على السلطة أن يستخرج شرعية جديدة ويبرر بتحركه الخاص  به السلطة التي يمارسها ( نموذج الإمام في جماعة صغيرة ) ، ينصب الرئيس  نفسه كمدافع عن القاعدة الكبيرة ويعتبر نفسه ممثلهم وملهمهم وصمام أمان لتوجهاتهم وطموحاتهم ويخاطب في الناس عواطفهم ويزرع فيهم أحاسيس تثبت أن له الحق بالاحترام و الطاعة.
أما المصدر الثالث فيرى بأن أصل الولاية هو " العقل" فالناس  لا يفوضون جزءا من  قدرتهم على التقرير  إلا لأنهم  يرونه كفئا لذلك.
ممارسة النموذج التقليدي  لا يمكن أن يكون سوى النتيجة للحصول على نفس القيم و الإذعان لنفس المبادئ العليا ويستدعي تشكيلها ضمان انتقال كمية كبيرة من المعلومات من جيل إلى جيل وهذا غير مؤمن و غير مضمون نظرا للمتغيرات السوسيوثقافية التي تقف حائلا دون إحداث نوع من التغيير ،/ و بالتالي فالولاية التقليدية محكوم عليها  بأنها ستجد صعوبات جمة في توسيع نطاقها في ظل الاتجاه نحو تعميم التثقيف.  نفس الأمر ينطبق على الولاية الريادة  المحكوم عليها كذلك بعدم القدرة على الاستمرارية ، تعد بذلك الولاية العقلية أكثر نجاعة و أكثر قدرة على الاستمرارية ، إذ لا تتحول إلى تسلطية و بالتالي فهي: " تنسجم مع الحضارات المتطورة المقيمة في أماكن فسيحة " .
الولاية على عكس السلطة البحتة لا تضع حيز التنفيذ مبدأ أرضيا؛  لا لزوم لرقابة دائمة ولا حاجة لتقسيم تربيعي دقيق ، لكن الإيديولوجية التي تبررها تنتشر عادة داخل مكان متجانس في بلد مثلا ، تلك هي حالة الاعتقاد بالقومية التي أصبحت أساسية منذ قرنين و التي تماثل بين الحاكم و الجماعة الملتحمة بالثقافة ، اللغة ، التاريخ ، العادات أو الدين ، للولاية من النوع التقليدي كذلك قاعدة مكانية محددة فهي تقوم على المشاركة في المعتقدات التي هي نتيجة تثقيف متشابه يحدث هذا بشكل خاص في المساحات الثقافية المترابطة جيدا .
كخلاصة لما قيل يمكن القول بأن المكان الذي تتطور فيه الولاية مشكلة من الرؤية الجماعية فهو خاص في ذهن أولئك الذين يستندون إلى نفس السيد ؛ يظهر في صورة هي أرضية بشكل عام لكن ليس بالضرورة ، نظرا لوجود قوميات على أساس عنصري أو ديني تستطيع أن تعيش بدون قاعدة مكانية ، كما نرى منذ بعض الأجيال  ظهور ارتباطات إيديولوجية تخرج عن التحديدات المحلية.

التأثير الايديولوجي:
تفترض علاقة الولاية  توحيدا مسبقا لأشكال المعتقدات، وهذه المهمة على عاتق الزعيم الملهم شخصيا ، فهي في حالة السلطة اللدنية نتيجة عمل في العمق  مستقل نسبيا عن السلطة،  فهي تعبير عن التأثير الايديولوجي . وتستمد  قوة التأثير الايديولوجي  من تلكم المكتسبات التي يستمدها الشخص من ثقافته ؛ أي من خلال امتلاكه لجملة من القواعد التي تحدد الخير من الشر داخل المجتمع  ( إشارة كذلك إلى دور التطبيع الاجتماعي في ترسيخ فلسفة المجتمع في صنوف الناشئة وتهيئهم للتكيف مع مناخهم الاجتماعي ) .
في المجتمعات الغربية يعتبرون بشكل عام أن الفرد يملك بفضل وعيه وسيلة للتمييز بين الخير و الشر ( الاستقلال الذاتي في الحكم ).
في هذا الشق يشير بول كلافال الى التأثير الايديولوجي الذي يمارسه المجتمع على الأفراد من خلال جملة من القيم و المعايير الثقافية التي تحدد مواقفهم وتوجهاتهم ، غير أن هذا التأثير يختلف من مجتمع لآخر حسب السياق العام الذي تعيش في كنفه المجتمعات ، فالتأثير الديني الذي يتخذ الشكل الديني يكون قويا في بعض الجغرافيات، في حين أن الاحتكام للغة المنطق هو الطاغي في مجتمعات أخرى ( الغرب ) و يذهب إلى إن  التأثير الإيديولوجي هو احتكار للجماعات وهو نوع من الإرهاب الفكري الذي يمارس ضد الأفراد ؛ حيث يمنعهم من الاحتكام للغة العقل بفعل قوة الترهيب أو الترغيب ( الجنة و النار ) ، كما أن رجال الفكر في مثل هذه المجتمعات لا يؤثرون كثيرا بسبب محدودية الوسائل التي بإمكانها أن تنجح عملية التواصل و تغيير طبيعة المجتمع .
التأثير الاقتصادي :
بدون الأساس الاقتصادي يصبح تأسيس السلطة حسب كلافال أمرا غير ممكن في معظم المجتمعات. كما أن إبراز التأثير الاقتصادي في هذا السياق أمر سهل إذ لا يمكن العيش بدون موارد ، كما أن تأمينها في حالة نذرتها أو انعدامها ضرورة حتمية من أجل البقاء .
إن الاقتصاد يؤثر على الأفراد ، كما أن المجتمعات ذات الموارد الاقتصادية و المعروفة بقوة وسائل إنتاجها و تقنياتها المستعملة في الإنتاج و التنظيم هي الأكثر تأثيرا في المجتمع ويصبح بذلك كل من يشتغل في الدائرة العامة للاقتصاد هو من يمتلك وسائل التأثير.
المجتمعات الليبرالية المعاصرة هي بلا انقطاع مهتزة بحركات الإضراب التي تشوه وتخذل جهود مختلف القطاعات لزيادة حصتها من الدخل الإقليمي العام.
لا يرتبط التأثير الاقتصادي فقط بالعمل السلبي ( استئثار الذين يملكون مركز القوة بحصة الأسد من منافع المبادلات أو الصناعات ) ، بل له أيضا القدرة على التأثير عبر الابتداع و التجديد ومن هنا قيمة المقاولات و تأثيراتها على محيطها السوسيوثقالفي.
لا يكون التأثير الاقتصادي حكرا على فئة صغيرة من السكان هو يكشف عن تأثيرات طبقية. تارة يكون منفذا بفئة مهنية وتارة أخرى بفئة قانونية..
إن سلطة المجال تكمن على  المستوى الاقتصادي في ما يزخر به من ثروات  فهناك نقاط مكانية ترتكز فيها الثروات تمارس تأثيراتها على المجتمعات. هذه النقاط الحيوية تصبح في أيدي عدد قليل من الناس.
تبين أعمال السلطة و الولاية بوضوح التسلسلية التي تسيطر على الحياة الاجتماعية في حين أن دراسة المؤثرات الإيديولوجية و الاقتصادية تركز على تأثيرات الطبقات ، يتطلب هذا منا أن نقوم بتحليل البنية الاجتماعية التي نتصدى لها الآن في المكان.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشعر الأمازيغي "باهبي ونماذج من أشعار أيت مرغاد"

  يعتبر الشعر أو "تامديازت" الشكل الأكثر تعبيرا عن حياة الإنسان الأمازيغي وفلسفته في الحياة، الشيء الذي يكشف عن غنى هذا الشكل الأدبي شكلا وعلى مستوى المضمون أيضا، فقد عني الإمديازن أو الشعراء الأمازيغ عناية فائقة بتقديم قصائدهم بقالب جميل الشكل غزير المضمون، وقام التنافس على أشده ولم يقعد بين كبار الشعراء الأمازيغ في مختلف المناطق التي يستوطنوها، بل إن التنافس وصل حد التراشق بالكلمات المصقولة أمام الجماهير في الأعراس والاحتفالات الطقوسية وفي مختلف التجمعات القبلية الأخرى.

مواصفات المقاول الناجح

ما دمت إنسانا يمتلك العقل والإرادة فأنت قادر على النجاح، لكن، يلزمك اتباع بعض أسس التفكير المنتج والذي من شأنه قيادة مشروعك لتحقيق النجاح. في هذه المحطة سنتحدث عن أهم مواصفات المقاول الناجح، بدونها يصبح المشروع مهددا بالانهيار في أي وقت، وهذه المواصفات هي كالآتي: 1- الثقة بالنفس: بدون الثقة في الذات يصعب عليك الإستمرار في بناء أي مشروع كيفما كان، فالثقة – هنا - عنصر هام لا محيد عنه في نجاح المشروع، والثقة ليست كِبرا ولا غرورا، بل هي الواقعية والالتزام في العمل وفق خطة محكمة معدة سلفا، كما أنها إيمان قوي بقدرة الذات على قيادة سفينة المشروع إلى بر الأمان رغم التحديات والعراقيل التي ستواجهك في الطريق. 2- الرغبة والقدرة: ونعني بـ"الرغبة" هنا توفر الإرادة الجامحة لإنجاح المشروع والتحفيز الذاتي المستمر والتفكير الإيجابي لحصد النتائج وتجاهل التسويف والمماطلة والتأجيلات. وأما "القدرة" فنعني بها القدرة على التعلم وشغف البحث والإطلاع في مصادر المعرفة المتنوعة والواسعة والتي من شأنها دعم معرفتنا وإغنائها لتزيد رؤيتنا وضوحا. فالمعرفة قوة والقدرة على تحصيل

أهم نظريات التنشئة الاجتماعية

النظرية البنائية الوظيفية : ويمكن القول بأنها نظرية تستمد أسسها من النظرية الجشطالتية في علم النفس و التي تدور فكرتها المحورية حول تكامل الأجزاء في كلّ واحد، بتحليل العلاقة بين الأجزاء و الكل، بمعنى أن كل عنصر في المجموعة يساهم في تطور الكل. فأصحاب هذه النظرية يرون في الأفراد و الجماعات أو أي نظام أو نسق اجتماعي يتألف من عدد من الأجزاء المترابطة، و بالتالي فان كل جزء من أجزاء النسق يكون وظيفيا، تماما كجسم الإنسان يتكون من مختلف الأعضاء ولكل جزء وظيفته [1] . و تشير النظرية البنائية الوظيفية؛ إلى أن كل أسرة نسق فرعي للنسق الاجتماعي، تتفاعل عناصره للمحافظة على البناء الاجتماعي وتحقيق توازنه. وتركز هذه النظرية على العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة و الوحدات الاجتماعية الكبرى، من خلال الدور الذي تؤديه في عملية التنشئة الاجتماعية للأعضاء الجدد في المجتمع . نظرية التحليل النفسي: ترى مدرسة التحليل النفسي، أن الجهاز النفسي للفرد يتكون من الهو والأنا والأنا الأعلى [2] . ويمثل الهو الجانب اللاشعوري من شخصية الفرد، وبالتالي فهو يميل إلى تحقيق غرائزه الفطرية؛ من مأكل ومشرب وجنس...الخ. ل