حقيقة مؤلمة هي تلك التي يصادفها الدارس و المتتبع لتقارير الأمم المتحدة، وللأحداث اليومية التي تقع في العالم العربي الآن، هذا العالم؛ الذي يأتي حسب التقرير الصادر عن الأمم المتحدة مطلع 2005؛ في مقدمة المناطق الجغرافية التي تشكوا شعوبها من كبت الحريات.. واستبداد السلطة السياسية، كل هذا أكدته الأحداث الأخيرة التي كشفت النقاب عن الحقيقة المرّة، التي تسم هذه المجتمعات التي طالما ضرب بها المثل قديما، كنموذج للحضارة و الازدهار، هي حقيقة كشفتها التقارير الأممية، و تنكب عنها الإعلام المحلي؛ البعيد عن كل موضوعية ونزاهة في الرصد و تتبع مجريات الوقائع والأمور ، وهذه سمة أخرى؛ تضاف إلى قائمة التمات المميزة لهاته المجتمعات التي تقبع الحريات الحقيقية، عبر الهيمنة على الإعلام، وكلنا يعرف دوره الكبير في نقل الحقائق الواقعية.. وفي ذات الآن تشويه هذا الواقع وتزيفه، وهو واقع إعلامنا المحلي و لبالغ الأسى والأسف.
لعل الدراسات الجديدة أكدت أن الشعب العربي يرفض الحكم التسلطي المطلق، ويتعطش للتمتع بالحريات والحكم الديمقراطي: إنهم على رأس قائمة من يرفضون الحاكم القوي، الذي لا يأبه لا ببرلمان ..أو انتخابات نزيهة، لأنه يعرف أن كلمته هي الأولى و الأخيرة ؛ لعل استمرارية الحكم التسلطي واستبداد النظم السياسية التي لا تزال ولبالغ الأسى و الأسف تسم مجتمعاتنا ؛ علما أن هذا النظام نفسه الذي طالما كان متفشيا في أمريكا اللاتينية، و في البلدان الإفريقية جنوب الصحراء، و اختفى الى حد كبير في أوروبا، لا يزال قائما و بقوة في البلدان العربية ..وهذا في حد ذاته مدعاة للتأمل أكثر في هذا الواقع العجيب.
إذن هو واقع لا يستطيع القلم الغيور الجريء، التكتم عن تجهمه و ديجوريته، ولعل الأستاذ "الحبيب الجنحاني" وهو أستاذ التاريخ الاقتصادي و الاجتماعي بالجامعة التونسية، قد رأى أن استمرارية ظاهرة استبداد النظم السياسية، يتجلى فيما عرفته الأقطار العربية، ابتداء من مطلع خمسينيات القرن العشرين وحتى اليوم، من سيطرة الحكم العسكري ، أو نظام الحزب الواحد الشمولي، و بالتالي فان ما نعانيه اليوم من قمع للحريات و كبت للتطلعات ..هو بالضرورة نتيجة حتمية للاستبداد السلطوي، والنظم السياسية؛ البعيدة كل البعد عن المطالب الشعبية البسيطة التي تتجلى بالأساس ؛ في تلك المطالب الخبزية و إصلاح التعليم و السكن و إدماج المعطل في وظيفة عمومية قارة، يقي بها نفسه والجيش الذي من حوله، من قساوة الظروف و تجهم الواقع؛ هي مطالب انغمس الشعب في المطالبة بها ، ولم يعر أي اهتمام للمطالبة بالحريات العامة؛ لأن الأولوية لملء البطون و تضميد الجراح.
إن الشعب العربي-الإسلامي؛ يحتاج إلى الحرية، ليعبر بكل طلاقة عما يختلجه من مشاعر الغضب جراء الأوضاع المزرية التي يتخبط فيها صيفا و شتاء... داخل هذا الجسم العربي-الإسلامي؛ الغاص بالأوبئة و الأمراض الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الهوياتية...ولعل أهم نموذج يضرب في هذا الصدد و الذي أوضحته بإسهاب في مقال سابق –تحت عنوان: "" في حاجة إلى إعادة الاعتبار في طبيعة العلاقة القائمة بين السلطة و المثقف و الذي بينت فيه أن سبب فشل مخططات التنمية، وإحداث تغيير جذري على البنية الاجتماعية في المغرب نموذجا؛ هو بالضرورة في غياب دلك التنسيق وتلك العلاقة الوثيقة بين المثقف و السلطة، بل هي علاقة أقل ما يمكن القول عنها، أنها عبارة عن تنافر وصراع وتوتر.. وهذا ما تؤكده راهنا الأحداث الجارية في كل من الرباط و مكناس وفي جامعات أخرى من المغرب، و الكل لاحظ العنف الضاري الذي واجه به المخزن الطالب (المثقف) كنموذج لا يقبل أي جدل، عن تلك العلاقة الصادمة بين السلطة و بين المثقف..إذ في غياب الحرية ؛ يغيب صوت الشعب و غياب صوت الشعب، يعني استبداد للحكم و للسلطة ؛ وكبت لحرية التعبير و قمع لها ؛ فعن أي حرية يتحدثون اليوم، وصوت المثقف لا يزال وهنا و خافتا بل غير موجود أصلا. مع أنه أساس النهوض بكل تنمية و بكل تغير اجتماعي حقيقي.
لا وجود إذن لحريات حقيقية في مجتمعاتنا العربية -الإسلامية، خطاب قد يبدو ملتفا بالغموض، و لكنها الحقيقة المرة- التي تأتي ضدا عن أولئك الذين قالوا ذات يوم: "بأننا مجتمع ينعم بالحرية..." لتقول لهم لا وجود للحريات ؛ بل هناك فقط تمظهرات ماكيافيلية ليس إلا؛ وأول نموذج لهذه التمظهرات؛ توريط الجزيرة الإخبارية، وطردها من المغرب؛ وهذه الواقعة الرهيبة بالفعل، تشكل انتصارا حقيقيا للسلطة المخزنية، و هزيمة أقل ما يمكن القول عنها ؛ أنها نكراء.. للحرية الشعبية و لحريات التعبير في بلداننا عموما..لا يهمنا في هذا المقام، إن كانت الجزيرة الإخبارية القطرية، تكن عداء للمغرب أو لا..بل إن ما يهمنا كمواطنين وكمثقفين و كشعب مسلوق، كما يسلق البيض في المقلاة: أنها تنقل أخبارا صحيحة عن المغرب، فهي أفضل على أي حال من دوزيم : قناة الدعارة و الماكياج و الزنا و الفحشاء و المنكر ، وهي كذلك أفضل من بروميير؛ قناة الاقتباسات و الاختيارات و الصباغة... وهي أفضل من كل قنواتنا الأخرى.
هذا الخطاب جاء ليقول كلمة ضدا على الذين قالوا؛ بأن مجتمعاتنا العربية -الإسلامية عموما، والمغرب خصوصا تنعم بالحريات؛ ليقول لهم: هذه المجتمعات استبدادية وسلطوية تكبت كل الحريات وتقمعها..ولكن- بطريقة لطيفة، وماكرة؛ بداية بالإعلام كي لا تكتشف الحقائق، التي قد تجرح مشاعر بعض من يقبعون في ظلمات الجب و يحتفون بسلطة الاستبداد والطغيان.
وخلاصة فانه لمن الأمر المفيد و الأفيد؛ أن يتم التأريخ كثيرا، وبصورة مبالغ فيها، عن إشكالية العلاقة و أزمتها بين السلطة و المثقف في هذه البلدان المتخلفة، و التي ما هي في الحقيقة، إلا أزمة حريات في البلدان العربية - الإسلامية.
إنني لا أتحدث و لكي لا أفهم خطأ عن المثقف الرخيص- الزهيد و البخيس الذي نجحت السلطة في إغرائه و إغداقه بالمادة؛ و لكن عن ذلك المثقف المستميت والقلق و المتشائم دوما.. والذي يحاول دءوبا البحث عن مكامن الخلل و جوهر المشاكل، لينبه بها، ويكشفها لكل من يهمه أمر قيادة سفينة نوح إلى بر الأمان.
تعليقات
إرسال تعليق