التخطي إلى المحتوى الرئيسي

في حاجة الى اعادة الاعتبار في طبيعة العلاقة القائمة بين السلطة و المثقف في مجتمعات العالم الثالث


            لا أرى أي ضرورة لاعتبارات بعض الناس- علماء الاجتماع وطلبة هذا العلم مجرد هياكل متأثرة برجالات غربيون منبوذون من طرف مجتمعاتهم، كما لا أرى أي ضرورة تدفع بأصحاب القرار في مجتمعاتنا المتخلفة ، الى الحط من قدر علم الاجتماع الى هذه الدرجة المستفزة، والتي لم يرى فيها الشمس الحقيقية بعد لحريته وقيمته، مقارنة طبعا بما حققه هذا العلم في البلاد الغربية/ أقصد بلاد "ماكس فيبر"  "ودوركهايم" ،و"ميرتون "و"تايلور"وغيرهم كثير..فمن الواضح جدا أن لعلماء الاجتماع في هذه المناطق من المعمور قيمة فائقة ووازنة- للنهوض بعمليات التهيئة و التنمية و التطور فالرقي و الازدهار الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي و المقاولاتي..و حتى التجاري و الفلاحي و العلائقي و غير ذلك ..فلما لا يكون لعلماء الاجتماع نفس الدور ونفس الوزن والاعتبار في مجتمعاتنا التي تعج بالأمراض و الأوبئة الاجتماعية، المدعاة للاكتئاب و الحسرة و الألم ؟
سؤال جوهري إذن، يروم بالفعل تسليط الضوء على مكمن الخلل ، وجوهر المشكلة في مجتمعاتنا؛التي تنشد التنمية أو بالأحرى تنشد الريح و السراب...لماذا ؟
         
           لنأخذ النموذج الغربي على سبيل المثال؛ رغم أن مفهوم "غربي" يثير حفيظة البعض وغيض البعض الآخر، لكن هذا لا يهم؛ مادام لمثل هذه الخطابات و المقالات رجاله الأوفياء.. لنأخذ الجانب المقاولاتي  على سبيل المثال لا الحصر ،و لنضرب المثل بأعمال تايلور، و التي أستفيد منها كثيرا ليس في وقته فحسب، و انما في وقت لاحق كذلك، لأن دراساته و نظرياته حول التقسم العمودي و الأفقي للشغل و كذا اكتشافه للطابع التبليدي للشغل و تأثيراته ، ثم ضرورة التحفيز المادي للعمال لتجاوز  هذه الشكلية ، وذلك لزيادة الإنتاج و الجودة وبالتالي؛ ضمان الربح ومراكمة رأس المال ..كل ذلك ساهم في قيام اقتصاد أمريكي قوي وزاحف ، صحيح أن  الفعل سبق الفكر في الولايات المتحدة الأمريكية في ذلكم الوقت، على خلاف أوروبا ، والتي دشن فيها الفكر لميلاد الفعل. ( دور عصر النهضة و الأنوار في ميلاد ثورات تقنية و صناعية ..) إلا أن تايلور، كان يبحث دوما عن حلول عملية للمشاكل التي يشهدها تنظيم مقاولاته ، فكلما لاحظ مشكلة إلا و دونها، وحاول البحث  لها عن حلول ، وهذه هي النقطة التي أود التركيز عنها في هذا المقال ، فلا يهمنا ان لم يكن" تايلور" سوسيولوجيا بامتياز، غير أن المهم هو ان أبحاثه و دراساته   ذات بعد امبريقي- ميداني ، إذ نجد  " تايلور و كأنه يمشي و يسير أمام الاقتصاد و المقاولات ..و يحمل معه مصباحا ينير لهم ( لأرباب المعامل و الرأسماليين وأصحاب القرار...) الطريق،  و يكشف لهم الثغرات ومكامن الخلل، و يعرض لهم بعض الملاحظات و الاقتراحات لتفادي الوقوع في الزلل، وبالتالي لزيادة الإنتاج و الجودة..و بالفعل؛ كانت إسهامات تايلور ناجعة، ولعبت دورها الفعال في تحريك سفينة الاقتصاد الأمريكي إلى الأمام، فعلى الرغم  من بعض المؤاخذات والانتقادات  التي تعرض لها هذا الرجل، إلا انه كان من بين أهم من حمل مشعل الحضارة الأمريكية ، فمشروع "روزفلت" استفاد الشيء الكثير من نتائج أبحاث "تايلور" وغيره من المفكرين ، هذا مع ان التايلورية كما قلت  سالفا قد شهدت (أزمة).. إلا أن الدراسات و الأبحاث التي جاءت من بعدها قد شيدت؛ انطلاقا من أفكاره و كذا أخطائه.. وفي هذا الصدد لا يجب أبدا أن نفوت الحديث و التطرق  "لماكس فيبر" و تحليلاته لأشكال التنظيم ،التي عرفها المجتمع البشري ( النمط التقليدي ، النمط الكاريزماتي فالنمط البيروقراطي العقلاني .) كما  لا يجب أن يفوتنا ذكر أعمال "ميرتون" في هذا الصدد، و التي يمكن القول عنها أنها أعمال سوسيولوجية، شيدت على أنقاض أبحاث فيبر حيث ركز صاحبنا (ميرتون) على تحليل الظاهرة البيروقراطية، و أثرها على الأفراد المكونين للتنظيم، ليؤكد على وجود نتائج مغايرة لما انتهى اليها " فيبر". فإذا كان هذا الأخير، قد ركز على مسألة فعالية التنظيم البيروقراطي ،فان ميرتون قد اكتشف العكس تماما ..وهكذا نجد أن الفكر كان دائما ولايزال شمعة تنير الطريق للاقتصاد و المقاولات...فلا  يمكن على أي حال من الأحوال إنكار ذلك، مادام كبار السياسة، وذهانقة رؤوس الأموال بالدول الغربية يأخذون بعين الاعتبار المفكرين و الأكاديميين في الحسبان و في المشورات ...
         
            لنعد الى إسهامات مفكرين آخرين ، للتأكيد على هذه الفكرة البديهية في ذاتها من وجهة نظر غربية ، و لنعرض بعجالة وفي الجانب "المقاولاتي" و التنظيمي و السياسي ..لأهم الأعمال التي كان لها وقعها الايجابي في تحريك أساطيل الحضارة الغربية ، ألم يكن في هذا الصدد "لمارش" و"سيمون "صاحبا العقلانية المحدودة ،والذين اكتشفا ان العامل داخل التنظيم يكرس سلوكات الآلة، و بالتالي فهو بمثابة أداة لتنفيذ المهام الموكولة إليه ، دور في تغيير ما يجب تغييره داخل المقاولات، التي شكلت محرك الأسطول الغربي ؟ ..ألم يكن كذلك  لمدرسة العلاقات الانسانية ، مع "ايثون مايو"  و"كورت لوفين" في دينامية الجماعات ، وكذا "ميشيل كروزيي" في مدرسة التحليل الاستراتيجي...دور في التحليق الأوربي نحو الرقي و الازدهار ؟؟؟؟..ولا ننسى "تالكوت بارسونز" وتصوره للتنظيم.. ناهيك عن إميل دوركايم، في مجالات آخرى، و "ميشو بيلير" و"لوشاتوليي" و ادموند دوتي " وغيرهم  كثير..و الذين كان لهم الهدف الأسمى في خدمة الايديولوجيا الغربية ، وحتى في سياستها التوسعية و الامبريالية في دول و شعوب العالم الثالث .. فكل هؤلاء المفكرون و الأكاديميون؛ كانوا يسيرون دوما أمام التنمية و أمام التطور و الرقي الأوروبي و الغربي ، ولم يكونوا في خدمة السياسي أو الرأسمالي فقط ،و انما كانوا في خدمة  مجتمعاتهم ككل منتظم على الصيغة الجشطالتية، وهذا ما يفسر أن العلاقة بين المثقف و السلطة في هذه البلدان المتطورة و المتحضرة؛ هي علاقة تعاون و وتقديم للنصائح و الحوافز ..هي علاقة أقل ما يمكن القول عنها، أنها وثيقة ، تقبل بكل الانتقادات الموجهة الى الطريق المستقيم..لكن ماذا عن مجتمعاتنا نحن ؟
             
                من البديهي أن دور السوسيولوجي و الأكاديمي بصفة العموم، لا يجب ان يقتصر على دراسة الظواهر فحسب ، بل يجب ان ينسلخ  عن هذا المبدأ و بخاصة في خضم الأوضاع الراهنة و الظرفية التاريخية الآنية..و في خضم تخلف هذه المجتمعات عن ركب ثقافة المجتمع الحديث ، على الأكاديمي أن يهب لنجدة هذا المجتمع الذي هزته ديناميكا الصراع الحزبي، و الفقر الاجتماعي و الأمراض و الأوبئة الاجتماعية المقلقة ، عليه أن يسير أمام رجال التنمية ، و ينير لهم الطريق المظلم و الحالك الذي يسيرون فيه طوال سنين خلت، على الأكاديمي أن يحمل المشعل و يسير في المقدمة.. و على السياسي ان يسير في الطريق التي يخطها ويرسمها الأكاديمي، ولتحقيق هذا المطلب من الضروري توفير كافة الوسائل اللوجيستيكية و المعنوية المادية ..التي يحتاجها الأكاديمي ليعمل بكل حرية دون قلق حزبي، و دون ضغوطات من فوق أو من تحت.. تلكم هي الإستراتيجية التي يجب ان تقود عملية التنمية و التغير الاجتماعي في مجتمعنا الغاص بأولي البطون الواسعة و الشاسعة، ""ان السوسيولوجيا، لا تستحق لحظة عناء واحدة ان لم ينتفع بها ""قالها ذات يوم اميل دوركهايم و سأكررها اليوم ..كما ان البحث من أجل البحث في هذه الظروف  لم يعد مقبولا، كما أكد ذلك الأستاذ الجليل: "عبد المعطي حجازي " في كتابه " اتجاهات نظرية في علم الاجتماع " و بالتالي فان لم تكن غاية العلم الوصول بالمجتمع نحو الأحسن و الأفضل؛ عد مضيعة للوقت و الجهود .
                 
               ان مجتمعات العالم الثالث، التي تبغي بالفعل السير في تنمية فعلية، لا ينبغي لها أن تعتمد فقط  على المشهد الحزبي، مادام يتسم  بالمكر و خداع الجماهير التي لا تعقل أي شيء بعبارة "ماكيافيلي" و" كوستاف لوبون" ، فهذا  المشهد أبان عن فشل دريع، طوال حقب و سنين خلت .. فأمام محدودية المنطق التقنوقراط و الحزبي و الهندسي و المعماري وغيره ..يكون من الضروري الاستنجاد بذلك الأكاديمي الذي ينظر الى المجتمع نظرة شاملة و كلية ومنطقية وعلمية  . لست أريد في هذا المقال التخبط في الهوامش  ، بل  ان هدفي ؛هو تقديم وجهة نظر- أعتبرها جوهر النهوض بالتنمية الفعلية، ألا وهي ضرورة  إدماج المثقف – وليس كل مثقف ، بل بعضهم ، و الذين تنطبق عليهم صفة العلمية و الموضوعية و اللاتمذهب و اللاتسيس و اللاتحزب ،  فهؤلاء هم من يستطيعون قيادة سفينة نوح إلى بر الأمان  ..لكن قبل ذلك من الضروري على المجتمعات الثالثية، التي أكل منها التخلف من كل قطاع و مجال نصيبا كبيرا ، أن تغير من طبيعة  علاقتها التي تربطها بالمثقف، و التي لاتزال تتسم بالنفور و الشنآن و انعدام الثقة ،  هي علاقة جسدتها "كليلة ودمنة " في خطابات ابن المقفع ، ولا تزال تجسدها وضعية جامعاتنا اليوم و مستوى التعليم المنحط وبصفة العموم في مجتمعاتنا الخرساء ../


             ان مواضيع مثل: الحكامة و الجهوية و اللامركزية و اللاتمركز الإداري و التمنية و التغير الاجتماعي و السياسة الحضرية و الثقافة الحضرية و العلاقات الاجتماعية ... الخ هي قضايا سوسيولوجية وانتروبولوجية وسيكولوجية وجغرافية ...بامتياز ، وتستحق ان تكتشف من كل جوانبها الديجورية، هذا الاكتشاف يستحيل أن يباشر به المهندس لوحده ..أو السياسي لوحده  ..و بالتالي وجب إشراك الأكاديمي في هذا العمل . بل وجب منحه المقود للقيادة، أو المشعل لينير الطريق و السرداب المظلم الذي يمشي فيه السياسي طوال حجج وقرون.


          ان ما ادعوا إليه ، هو  ضرورة إعادة الاعتبار للمثقف داخل البنية الاجتماعية  ككل ،فالمجتمعات التي حققت ثورات اقتصادية و سياسية عظمى، ما كان لها ان تحقق ذلك لولا تغيير علاقاتها بالمثقف، اذ لم تعد العلاقة إشكالية بعدما تم التمرد على الكنيسة التي احتكرت العلم و المعرفة آنئذ، بقدر ما أضحت علاقة وثيقة ، تقبل النقد المتبادل و تأخذ بالنصائح المعقولة ... فالسياسي و المقاول و رجل الأعمال و رب العمل في حاجة ماسة إلى آخر الأبحاث المرتبطة بمجال عمله.ليستفيد منها و يعتبر منها لزيادة رأسماله :ليستفيد شخصيا و يستفيد منها مجتمعه في آخر المطاف ، و لا شك انه من الضروري ان نسير في نفس السرداب و ان تتغير نظرة السلطة الى المثقف و تعتبر منه. لا ان تهاجمه بضراوة فتهمشه وتقصيه من كل حركة للتغيير .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشعر الأمازيغي "باهبي ونماذج من أشعار أيت مرغاد"

  يعتبر الشعر أو "تامديازت" الشكل الأكثر تعبيرا عن حياة الإنسان الأمازيغي وفلسفته في الحياة، الشيء الذي يكشف عن غنى هذا الشكل الأدبي شكلا وعلى مستوى المضمون أيضا، فقد عني الإمديازن أو الشعراء الأمازيغ عناية فائقة بتقديم قصائدهم بقالب جميل الشكل غزير المضمون، وقام التنافس على أشده ولم يقعد بين كبار الشعراء الأمازيغ في مختلف المناطق التي يستوطنوها، بل إن التنافس وصل حد التراشق بالكلمات المصقولة أمام الجماهير في الأعراس والاحتفالات الطقوسية وفي مختلف التجمعات القبلية الأخرى.

مواصفات المقاول الناجح

ما دمت إنسانا يمتلك العقل والإرادة فأنت قادر على النجاح، لكن، يلزمك اتباع بعض أسس التفكير المنتج والذي من شأنه قيادة مشروعك لتحقيق النجاح. في هذه المحطة سنتحدث عن أهم مواصفات المقاول الناجح، بدونها يصبح المشروع مهددا بالانهيار في أي وقت، وهذه المواصفات هي كالآتي: 1- الثقة بالنفس: بدون الثقة في الذات يصعب عليك الإستمرار في بناء أي مشروع كيفما كان، فالثقة – هنا - عنصر هام لا محيد عنه في نجاح المشروع، والثقة ليست كِبرا ولا غرورا، بل هي الواقعية والالتزام في العمل وفق خطة محكمة معدة سلفا، كما أنها إيمان قوي بقدرة الذات على قيادة سفينة المشروع إلى بر الأمان رغم التحديات والعراقيل التي ستواجهك في الطريق. 2- الرغبة والقدرة: ونعني بـ"الرغبة" هنا توفر الإرادة الجامحة لإنجاح المشروع والتحفيز الذاتي المستمر والتفكير الإيجابي لحصد النتائج وتجاهل التسويف والمماطلة والتأجيلات. وأما "القدرة" فنعني بها القدرة على التعلم وشغف البحث والإطلاع في مصادر المعرفة المتنوعة والواسعة والتي من شأنها دعم معرفتنا وإغنائها لتزيد رؤيتنا وضوحا. فالمعرفة قوة والقدرة على تحصيل

أهم نظريات التنشئة الاجتماعية

النظرية البنائية الوظيفية : ويمكن القول بأنها نظرية تستمد أسسها من النظرية الجشطالتية في علم النفس و التي تدور فكرتها المحورية حول تكامل الأجزاء في كلّ واحد، بتحليل العلاقة بين الأجزاء و الكل، بمعنى أن كل عنصر في المجموعة يساهم في تطور الكل. فأصحاب هذه النظرية يرون في الأفراد و الجماعات أو أي نظام أو نسق اجتماعي يتألف من عدد من الأجزاء المترابطة، و بالتالي فان كل جزء من أجزاء النسق يكون وظيفيا، تماما كجسم الإنسان يتكون من مختلف الأعضاء ولكل جزء وظيفته [1] . و تشير النظرية البنائية الوظيفية؛ إلى أن كل أسرة نسق فرعي للنسق الاجتماعي، تتفاعل عناصره للمحافظة على البناء الاجتماعي وتحقيق توازنه. وتركز هذه النظرية على العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة و الوحدات الاجتماعية الكبرى، من خلال الدور الذي تؤديه في عملية التنشئة الاجتماعية للأعضاء الجدد في المجتمع . نظرية التحليل النفسي: ترى مدرسة التحليل النفسي، أن الجهاز النفسي للفرد يتكون من الهو والأنا والأنا الأعلى [2] . ويمثل الهو الجانب اللاشعوري من شخصية الفرد، وبالتالي فهو يميل إلى تحقيق غرائزه الفطرية؛ من مأكل ومشرب وجنس...الخ. ل