التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سلسلة الطبع الصحراوي - براءة طفلة ومشكلة ثقافة


saidi.samir89@gmail.com

إنها السنة الثالثة من التعليم الابتدائي، فيها يبدأ العقل الصغير يروض بالمعارف ويشكل بالأفكار ويكتسب القناعات والمبادئ الأساسية للتفكير، وتبدأ معالم رجال ونساء الغد تطفوا للملاحظ، في هذه المرحلة، تأتي المدرسة لتعلم الطفل حسن السلوك وقبيحة بعد مؤسسة الأسرة. لكن على ما يبدو؛ فالشرخ واضح بين أهداف الأسر التقليدية بالواحات وأهداف وغايات المنظومة التعليمية التي تبنتها البلاد.
ففي الوقت الذي تستمد فيها المدرسة أسسها من مرجعيات متعددة؛ دينية، إنسانية.. نجد الأسر الواحية تعتمد مرجعيتها العرفية بمواقفها الشاذة والسوية، وهكذا نجد في فضاء المدرسة عادة نماذج لأطفال لا يعفرون كيف يتصرفون في عدة وضعيات تفاعلية؛ هل بالحفاظ على تطبيع الأسر والمحيط أم باعتماد قيم مدرسة الدولة المستحدثة.
قصتنا ها هنا تبدأ مع دوللي، وهي فتاة تبلغ العاشرة من العمر، نشأت في كنف أسرة بيضاء في إحدى قصور الواحة، وتربت على حب الذات والاعتزاز بالإنتماء والإفتخار بلون البشرة البيضاء الذي ورثته من والديها. كانت والدة دولي فلاحة مجدة تشتغل بجد في أراضي فلاحية ورثتها من زوجها المتوفى. و لم تكن الوالدة شأنها شأن نسبة كبيرة من ساكنة الواحة من الذين يعرفون الحرف، لذلك نشأت على أعراف الواحة ولم يتح لها أن تتعرف على قيم إنسانية أخرى، فجاء فكرها محدودا بحدود جغرافية الواحة وثقافتها البدائية العقيمة، ولم تستطع أن تفكر أكثر مما يفكر فيه الواحيون الجهلة ممن نشأوا وترعرعوا على ثقافة القفار فلم يستطيعوا الخروج بفكرهم بعيدا عن هذه الثقافة المحدودة أفقها. لهذا علمت ابنتها وربتها على شاكلتها؛ علمتها أن تحس بأنها أفضل بكثير من جاراتها السمراوات، كما طبعتها على فكرة التفوق العرقي للبيض على السود في أمور الذكاء والجمال والمكانة الاجتماعية. باختصار شديد؛ لق كانت دوللي مشروع إعادة انتاج نفس البنية المتخلفة للعقلية الواحية التقليدية.
ذات يوم، حاول استاذ اللغة العربية أن يعلم تلامذته أنه لا فرق بين إنسان وآخر إلا بالتقوى وفقا لتعاليم الدين الاسلامي، وأن الأبيض والأسود سيان ولا فرق بينهما إلا بالعمل الصالح والأخلاق الرفيعة، وأن ما يتكون منه الانسان الأسود هو نفس ما يتكون منه الانسان الأبيض وغير ذلك من الأمور، لكن دولي قاطعت - بجرأة طفلة ساذجة- معلمها وأكدت له أن للأبيض صفات تميزه عن الأسود، وبأن الأبيض جميل بينما الأسود قبيح، وقامت دولي في أعقاب تدخلها بوضع مقارنات بينها وبين طفلة سوداء في القسم، فقالت لأستاذها أنا أفضل من تلك السوداء..
لم يستطع الأستاذ أمام خجله من جرأة دولي وتهجمها على طفلة أخرى إلا أن قام بتوبيخها بشدة ملزما إياها الصمت، لكنه أدرك في البداية بانه أمام مواجهة ثقافة ومنظومة فكرية جامدة وليس في مواجهة طفلة بريئة هي الأخرى ضحية لتنشئتها الاجتماعية. لذلك جاء رد الأستاذ على مراحل. حيث فكر في تغيير مجموعة من الأفكار العنصرية في ابناء البيض داخل المدرسة، كل ذلك تم وفي قلبه رغبة جامحة في نشر ايديولوجيته الاسلامية في صفوف مجتمع واحاتي لا يزال وفيا لأعرافه السقيمة.
كانت إرادة الأستاذ كبيرة للغاية لهذا عمل على التوفيق في مشروعه بين عمله في المدرسة وأنشطته خارجها؛ يحاضر في الجمعيات وينبه الأطفال داخل الفصل إلى ضرورة احترام بعضهم البعض، يحاول جاهدا أن يسلط الضوء بكل ما آتاه من جهد فكري على جوانب من تاريخ الإسلام "المضيء" فيما يخص علاقة العرب والمسلمين بالعبيد السود، ويحاول أن يقنعهم بأن الاسلام عمل على القضاء على العبودية عبر مراحل ليحرر الانسان من استعباد أخيه الانسان واحتقاره. لكن مجهوده في آخر المطاف اصطدم بترسانة عرفية وبكومة من الرواسب الثقافية التي جعلت أمر تغيير العقليات الواحية الصلبة أمرا صعب الحدوث، خصوصا إذا تعلق الأمر بمجهود فاعل خير يغرد وحيدا خارج السرب.
لحظة بكاء دوللي:
أخذ الأستاذ ذي المرجعة الاسلامية ذات يوم منديلا أبيضا وقام بمسح وجه شاب أسمر به، فظهرت رقعة سوداء على المنديل الأبيض، فضحكت دوللي بشكل هستيري، معتقدة أن الإنسان الأسود يفرز باستمرار أوساخا سوداء.
لكن الأستاذ لم يمهل دوللي الكثير من الوقت فأخذ منديلا آخر وقام مباشرة باستدعائها إلى الصبورة، فمسح بالمنديل وجهها وكانت النتيجة؛ ظهور بقعة سوداء على المنديل الأبيض من جديد.
كان هذا الحادث أكبر صدمة "واقعية" تتلقاها الطفلة المدللة، خصوصا وانها نشأت على أنفة وعلى منظومة من الأفكار التي تربط الأوساخ بالسود وتقرن النظافة بالبيض، ولم تكن مدركة البتة بان بشرتها البيضاء ستخلف رقعة سوداء على المنديل، لهذا بكت بحرقة معبرة عن رفضها لنتائج تجربة الأستاذ الذي لم يكن وقتها قادرا على إقناع دوللي بأن تلك البقعة السوداء لا علاقة لها بلون البشر ،إنما؛ كل جسد مهما بدا نظيفا قادر على إفرازها حتى ولو كان شديد البياض. 
أصيبت دوللي بعد ذلك بصدمة كبيرة بددت آمالها وحطمت اعتقاداتها الساذجة التي بنتها في تنشئتها الاسرية، وكان رد فعلها بعد أن رأت الرقعة السوداء على المنديل الأبيض أن أجهشت بالأنين والبكاء. حاول الأستاذ أن يوضح لها أن الحالة "طبيعية" ولا تدعوا لكل هذا. لكن يبدو أن قوة ما تطبّعَتْ به الفتاة في أسرتها جعل من الصعب اقناعها بالأمر. فاستمرت دوللي بالبكاء والأنين واعتقدت أنها ورثت لعنة السواد من السمراوات اللائي كن يجلسن بجوارها داخل الفصل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشعر الأمازيغي "باهبي ونماذج من أشعار أيت مرغاد"

  يعتبر الشعر أو "تامديازت" الشكل الأكثر تعبيرا عن حياة الإنسان الأمازيغي وفلسفته في الحياة، الشيء الذي يكشف عن غنى هذا الشكل الأدبي شكلا وعلى مستوى المضمون أيضا، فقد عني الإمديازن أو الشعراء الأمازيغ عناية فائقة بتقديم قصائدهم بقالب جميل الشكل غزير المضمون، وقام التنافس على أشده ولم يقعد بين كبار الشعراء الأمازيغ في مختلف المناطق التي يستوطنوها، بل إن التنافس وصل حد التراشق بالكلمات المصقولة أمام الجماهير في الأعراس والاحتفالات الطقوسية وفي مختلف التجمعات القبلية الأخرى.

مواصفات المقاول الناجح

ما دمت إنسانا يمتلك العقل والإرادة فأنت قادر على النجاح، لكن، يلزمك اتباع بعض أسس التفكير المنتج والذي من شأنه قيادة مشروعك لتحقيق النجاح. في هذه المحطة سنتحدث عن أهم مواصفات المقاول الناجح، بدونها يصبح المشروع مهددا بالانهيار في أي وقت، وهذه المواصفات هي كالآتي: 1- الثقة بالنفس: بدون الثقة في الذات يصعب عليك الإستمرار في بناء أي مشروع كيفما كان، فالثقة – هنا - عنصر هام لا محيد عنه في نجاح المشروع، والثقة ليست كِبرا ولا غرورا، بل هي الواقعية والالتزام في العمل وفق خطة محكمة معدة سلفا، كما أنها إيمان قوي بقدرة الذات على قيادة سفينة المشروع إلى بر الأمان رغم التحديات والعراقيل التي ستواجهك في الطريق. 2- الرغبة والقدرة: ونعني بـ"الرغبة" هنا توفر الإرادة الجامحة لإنجاح المشروع والتحفيز الذاتي المستمر والتفكير الإيجابي لحصد النتائج وتجاهل التسويف والمماطلة والتأجيلات. وأما "القدرة" فنعني بها القدرة على التعلم وشغف البحث والإطلاع في مصادر المعرفة المتنوعة والواسعة والتي من شأنها دعم معرفتنا وإغنائها لتزيد رؤيتنا وضوحا. فالمعرفة قوة والقدرة على تحصيل

أهم نظريات التنشئة الاجتماعية

النظرية البنائية الوظيفية : ويمكن القول بأنها نظرية تستمد أسسها من النظرية الجشطالتية في علم النفس و التي تدور فكرتها المحورية حول تكامل الأجزاء في كلّ واحد، بتحليل العلاقة بين الأجزاء و الكل، بمعنى أن كل عنصر في المجموعة يساهم في تطور الكل. فأصحاب هذه النظرية يرون في الأفراد و الجماعات أو أي نظام أو نسق اجتماعي يتألف من عدد من الأجزاء المترابطة، و بالتالي فان كل جزء من أجزاء النسق يكون وظيفيا، تماما كجسم الإنسان يتكون من مختلف الأعضاء ولكل جزء وظيفته [1] . و تشير النظرية البنائية الوظيفية؛ إلى أن كل أسرة نسق فرعي للنسق الاجتماعي، تتفاعل عناصره للمحافظة على البناء الاجتماعي وتحقيق توازنه. وتركز هذه النظرية على العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة و الوحدات الاجتماعية الكبرى، من خلال الدور الذي تؤديه في عملية التنشئة الاجتماعية للأعضاء الجدد في المجتمع . نظرية التحليل النفسي: ترى مدرسة التحليل النفسي، أن الجهاز النفسي للفرد يتكون من الهو والأنا والأنا الأعلى [2] . ويمثل الهو الجانب اللاشعوري من شخصية الفرد، وبالتالي فهو يميل إلى تحقيق غرائزه الفطرية؛ من مأكل ومشرب وجنس...الخ. ل