التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أهم نظريات التنشئة الاجتماعية


النظرية البنائية الوظيفية :

ويمكن القول بأنها نظرية تستمد أسسها من النظرية الجشطالتية في علم النفس و التي تدور فكرتها المحورية حول تكامل الأجزاء في كلّ واحد، بتحليل العلاقة بين الأجزاء و الكل، بمعنى أن كل عنصر في المجموعة يساهم في تطور الكل. فأصحاب هذه النظرية يرون في الأفراد و الجماعات أو أي نظام أو نسق اجتماعي يتألف من عدد من الأجزاء المترابطة، و بالتالي فان كل جزء من أجزاء النسق يكون وظيفيا، تماما كجسم الإنسان يتكون من مختلف الأعضاء ولكل جزء وظيفته[1].
و تشير النظرية البنائية الوظيفية؛ إلى أن كل أسرة نسق فرعي للنسق الاجتماعي، تتفاعل عناصره للمحافظة على البناء الاجتماعي وتحقيق توازنه.
وتركز هذه النظرية على العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة و الوحدات الاجتماعية الكبرى، من خلال الدور الذي تؤديه في عملية التنشئة الاجتماعية للأعضاء الجدد في المجتمع .

نظرية التحليل النفسي:

ترى مدرسة التحليل النفسي، أن الجهاز النفسي للفرد يتكون من الهو والأنا والأنا الأعلى[2]. ويمثل الهو الجانب اللاشعوري من شخصية الفرد، وبالتالي فهو يميل إلى تحقيق غرائزه الفطرية؛ من مأكل ومشرب وجنس...الخ. لكن سرعان ما تتشكل الأنا وذلك من خلال اتصال الهو بالمجتمع، فتوجه غرائز الهو وتنظمه في إطار الواقع والمجتمع القائم على التقاليد والعادات والقوانين و الأعراف ..الخ. 


إن الأنا الفردية تتكون إذن؛ من خلال اتصال الهو بالأنا الأعلى، هذا الأخير الذي يجد نموذجه الأول في الأسرة: أي الأب و الأم والإخوة الكبار والأعمام ... حيث يتم توجيه الطفل، وذلك بالنهي والنصح والمعاقبة والتشجيع، وبالتالي تتكون أنا الطفل، وتستمد نماذج سلوكها التي تمكن من تمثلها واستدماجها، فتصبح جزءا من شخصيته .


من خلال ما سلف؛ يتضح أن الأنا الأعلى هو الذي يتحكم في الهو فيوجهها، ويتحكم كذلك في الأنا ويدمجها، فهو المراقب للسلوك والموجه للأوامر، و هو الذي يهدد الأنا و ينذرها، ويعاقبها تماما كما كان يفعل الوالدان في مرحلة سابقة، واللذان حل الأنا الأعلى محلهما في الرقابة والقضاء والجزاء؛ وهذا الأنا الأعلى يسمى الضمير، بمعنى أنه مظهر من مظاهر استمرار قيم وعادات وتقاليد وطقوس المجتمع، من الآباء إلى الأجيال القادمة، ومن هنا تصبح التنشئة الاجتماعية هي عملية تفاعل اجتماعي، يكتسب من خلالها الفرد أنماطا ومعايير التصرف والسلوك والقيم والأعراف والتقاليد والعادات المتعارف عليها في جماعته، و يتم استدماجها بطريقة تؤهله للتعامل وإحداث علاقات اجتماعية ناجحة مع أفراد مجتمعه وثقافته.

نظرية التعلم :

أثناء التنشئة الاجتماعية، يتعلم الفرد تدريجيا سلوكيات تمكنه من مسايرة حياته الاجتماعية بصورة جيدة، فمن بين أهم المكونات الأساسية لعملية التنشئة الاجتماعية؛ ما يسمى بالتعلم الاجتماعي والذي ينقسم إلى التعلم المباشر والتعلم غير المباشر: 
بخصوص التعلم المباشر: فيتم عن طريق إكساب وتلقين الكبار للصغار ما ينبغي وما لا ينبغي القيام به، وذلك بطريقة مباشرة؛ حيث أن الكبار يعملون على تحفيز الصغار معنويا، وحتى ماديا في بعض الأحيان، كلما أتوا بسلوك حسن، ويتم عقابهم كلما أتوا بسلوك قبيح، و بالتالي يعمل الطفل على تكرار السلوكيات التي تدر عليه المزيد من التحفيز و الدعم المعنوي، ويعمل في نفس الآن على الابتعاد عن السلوكيات التي تشكل مصدر عقاب له.. وهكذا.

وأما التعلم غير المباشر: فيتجلى في اكتساب الفرد لسلوكيات ومعارف بطريقة غير مباشرة، وغير مقصودة انطلاقا من محيطه، وذلك عبر اللعب و التقمص و التقليد. 
بخصوص اللعب؛ فيرى بعض علماء النفس الاجتماعي؛ أن له دورا مهما في تسريع عملية التنشئة الاجتماعية للطفل؛ إذ يقوم الطفل عادة في لعبه بتقمص دور الطبيب أو المعلم أو الأب و الأم ..الخ. وهذا ما يكسبه خبرات عديدة تؤهله للتكيف بصورة أفضل مع محيطه الاجتماعي.
أما بخصوص التقمص؛ فقد أكد سيوارد Seward على أهميته في التعلم الاجتماعي، فما دام الطفل يتقمص دور الأب أو الأم ، فهذا ما يسرع عملية اكتسابه للقيم و المعايير السلوكية؛ وخاصة قيم والديه ( سيكولوجيا العدوان / نفس المرجع السابق.)
أما بخصوص التقليد؛ فيرى كل من ميلر و دولارد Meller et Dollard أنه نمط من الاستجابات المتعلمة، و يلعب دورا كبيرا في عملية التنشئة الاجتماعية.

نظرية الأدوار الاجتماعية:

يرى "جونسون" أن التنشئة الاجتماعية؛ هي عملية تعلم، يتعلم من خلالها الفرد أداء أدوار معينة. والدور الاجتماعي؛ هو عبارة عن تتابع نمطي لأفعال متعلمة، يقوم بها فرد من الأفراد في موقف تفاعلي، أي أن كل دور يرتبط بالمركز الاجتماعي للفرد، نتحدث مثلا على سبيل المثال عن الدور الاجتماعي-التعليمي المنوط بالمعلم أو الأستاذ، والذي يتجلى أساسا في توجيه النصائح والإرشادات و المعارف للتلاميذ، كما أن دور التلميذ يتجلى بضرورة الإنصات واحترام المعلم، وذلك طبقا للمركز الاجتماعي لكل واحد منهما؛ وبالتالي ومن خلال الأدوار الاجتماعية، فان الأفراد يتمكنون من تنظيم توقعاتهم وسلوكياتهم وأنماط تصرفاتهم، ما يضفي على أفعالهم الصبغة الاجتماعية بالمفهوم الفيبري[3] .


من خلال ما سلف، نستنتج بأن نظرية الدور الاجتماعي، تعتمد على جملة من المفاهيم ولعل من أبرزها مفهومي: المكانة الاجتماعية والدور الاجتماعي، فالمكانة الاجتماعية للفرد هي التي تحدد نمط سلوكاته، ونمط توقعاته لأدوار الآخرين كما بينت سالفا في مثال ( التلميذ و المعلم) اذ أن مكانة الطفل الاجتماعية؛ هي التي حددت له أن يتصرف اتجاه معلمه بالاحترام والمودة والتقدير..كما ان مكانة المعلم الاجتماعية، هي التي تحتم عليه ان يتصرف تجاه تلميذه بالتوجيه و الإرشاد و التعليم، وبالتالي فالحياة الاجتماعية وفق نظرية الدور الاجتماعي ما هي إلا عملية تعلم لأدوار اجتماعية.

نظرية التبادل الاجتماعي :

ترى هذه النظرية الحديثة، أن الإنسان يتصرف بشكل منطقي وعقلاني، فكل إنسان يضع أمامه مجموعة من الأهداف، ويحدد لنفسه أكثر الوسائل كفاءة، في إطار المجتمع والحياة الاجتماعية لبلوغ هذه الأهداف، ولما كان السعي وراء تحقيق هذه الأهداف يتم في وسط اجتماعي ومع أفراد آخرين، فانه لابد على الفرد أن يضع الآخرين في اعتباره دائما، لأنهم غالبا ما يؤثرون أو حتى يتحكمون في عملية سعي المرء لتحقيق أهدافه، وهذا الموقف هو الذي ينتج العلاقات الأساسية للتبادل، ويصبح السلوك بهذا المعنى و بعبارة ماكس فيبر سلوكا أو فعلا اجتماعيا، و الذي يتخذ عادة شكل التبادل وذلك لأن المصادر الاجتماعية و النفسية موجودة لدى الآخرين.


إن نظرية التبادل الاجتماعي (كنظرية للتنشئة الاجتماعية)، ترى أن القوة التي يمتلكها الآباء على الأبناء، تبدو جلية في السنوات الأولى أو في مرحلة التنشئة الاجتماعية الأولية، على حد تعبير بيرجير و لوكمان ( عبد الرحمان علمي ادريسي المرجع السابق ص41) هي علاقة تبادل اجتماعي، ففي الوقت الذي يكون فيه الطفل محتاجا بشكل كبير إلى العناية و الاهتمام المادي والمعنوي، يكون لزاما عليه أن يحترم ويطيع بالمقابل والديه، ليضمن لنفسه الحصول على ذلك المطلب والإشباع النفسي الذي يحتاجه، و تتغير حاجات الطفل بتغير عمره، وبالتالي تتطور العلاقات التبادلية التي تحكم بين الأفراد، لتمتد إلى المؤسسات الاجتماعية الكبرى[4] .

نظرية التفاعلية الرمزية:

ترتبط هذه النظرية بعالم الاجتماع الأمريكي " جورج هربرت ميد"George h. Mead ناهيك عن إسهامات" تشارلز كولي" وكذا رايت ميلز" وارفنج كوفمان "وغيرهم. وهي نظرية في التنشئة الاجتماعية و لا تسعى إلى تحليل المجتمع ككل، و بالتالي فهي نظرية محدودة النطاق، لكن هذا لا يعني أن مضمونها غير ذي قيمة كبيرة، بل على العكس، فهي من أهم النظريات المعاصرة في نظرية التنشئة الاجتماعية.

وتستند هذه النظرية على مجموعة من المفاهيم الأساسية وهي: الرموز والمعنى، التوقعات، السلوك والأدوار والتفاعل.
بخصوص الرموز و المعنى: ينطلق "جورج هيربرت ميد" من مسلمة أساسية مؤداها؛ أن الإنسان شأنه شأن الحيوان؛ كائن يمارس حركات وإشارات ويصدر أصوات كما تفعل باقي الحيوانات الأخرى، بيد أن النوع البشري يمتاز بخاصية تجعله في آخر المطاف، يسمو عن هذه الكائنات، إذ سرعان ما يحول تلكم الإشارات والأصوات وتعابير الوجه..الخ، إلى رموز وأفعال تنطوي على معنى. وتكتسب الرموز أهميتها وتصبح ذات دلالة، وذلك عندما تكتسب نفس المعنى لدى مستقبلها؛ أو بعبارة أكثر وضوحا؛ حينما يصبح للرمز معنى مشتركا فهي تصبح في هذه الحالة رموزا اجتماعية، وتكتسب من خلال التفاعل مع الآخرين، فالناس في نظر "هربرت ميد" كائنات اجتماعية، وإنسانيتهم نتاج للتفاعل الاجتماعي الرمزي مع الآخرين( أسس علم الاجتماع / نفس المرجع السابق).

أما بخصوص التوقعات و السلوك: فإذا كان المجتمع يتشكل كبناء من التفاعلات التي تجري بين أعضائه و أفراده وجماعته، فان السلوك داخل الجماعات وبين الأفراد بعضهم البعض، ينتظم من خلال التوقعات؛ فالناس من خلال التفاعل يتعلمون التصرف بالطريقة التي يتوقعها الآخرمنهم، وبالتالي فالفاعل يضع دائما في حسبانه الآخر توجها وتصرفا[5].

من هنا تتشكل أنماط العلاقات بين الناس وجماعاتهم كبنية اجتماعية، وتتجلى طبيعة المجتمع في أنه جماع للتوقعات المتبادلة.
إن المجتمع إذن، في ضوء النظرية التفاعلية الرمزية؛ هو شبكة معقدة من الأفعال الفردية و التفاعلات بين الأفراد، وان جميع هذه الأفعال والتفاعلات منظمة ومراقبة ومدفوعة بالعضوية الجماعية، بما يترتب عليها من أدوار وتوقعات أدوار، ويستمر المجتمع في أداء مهامه وفي البقاء بسبب التنشئة الاجتماعية للناس، حتى يصبحوا قادرين على مواجهة التوقعات، هذه العملية التي تبدأ منذ لحظة الميلاد وذلك لأن الأفراد يعتمدون على بعضهم البعض في المصالح و المنافع و الخدمات الضرورية لبقائهم. وبالتالي فالناس يستدمجون كافة متطلبات أداء الأدوار، ويتطلع كل منهم إلى انجاز الأدوار المتوقعة منه، ومن ثم فالمجتمع يعمل في تناسق وتعاون من أجل انجاز التوقعات، ويتخذ من التدابير المتمثلة في أشكال الثواب و الجزاء ما يراه ملائما وكافيا لانجاز هذه التوقعات.

نظرية الضبط الاجتماعي:

من بين أهم الخاصيات التي تميز الإنسان عن الحيوان؛ هي عملية الضبط الاجتماعي التي تسم وتميز الكائن الإنساني، فالتنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ طفولته، ما هي إلا ضوابط داخلية عند الإنسان، توجهه و ترشده وتقيده بضرورة الخضوع للمجتمع؛ فمن خلال التنشئة الاجتماعية يتعلم الفرد ضوابط السلوك؛ حسنه وقبيحه، فيتصرف بالطريقة التي تضمن له تحقيق تفاعل ايجابي مع غيره من بني جنسه، وبالتالي فعملية الضبط الاجتماعي تمثل الأساس الذي يضمن للفرد توافقه مع مجتمعه، وبالتالي لوجوده وتكيفه مع الآخر. 
من خلال ما سلف؛ يتبين أن التنشئة الاجتماعية؛ هي حصيلة عمليات اجتماعية متعددة؛ وتعتبر عملية التعلم الاجتماعي من بين أهم و أبرز تلكم العمليات، و التي يكتسب منها الطفل عادات و سلوكيات و قيم مجتمعه، ويبني تمثله لعالمه وواقعه.
تلكم إذن بعض أهم نظريات التنشئة الاجتماعية و سأتطرق الآن لدور الأسرة في عملية التنشئة، وذلك لأنها تمثل أهم وسيط من وسائط التنشئة الى جانب جماعة الرفاق و المدرسة ودور العبادة...الخ.



[1] د.أحمد مبارك الكندري في كتابه "علم النفس الأسري"، ص 23،كلية علوم التربية الأساسية.
[2] خليل قطب أبو قرة: سيكولوجيا العدوان، مكتبة الشباب ، فبراير 1996، ص 149
[3] نسبة إلى ماكس فيبر ؛ الاقتصادي و القانوني ..وعالم الاجتماع الألماني الشهير.
[4] د . محمود عودة ، أسس علم الاجتماع، دار النهضة للطباعة العربية، ص 98.
[5] عبد الباسط عبد المعطي/ اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، ص 92، عن سلسلة مجلة عالم المعرفة 1998

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشعر الأمازيغي "باهبي ونماذج من أشعار أيت مرغاد"

  يعتبر الشعر أو "تامديازت" الشكل الأكثر تعبيرا عن حياة الإنسان الأمازيغي وفلسفته في الحياة، الشيء الذي يكشف عن غنى هذا الشكل الأدبي شكلا وعلى مستوى المضمون أيضا، فقد عني الإمديازن أو الشعراء الأمازيغ عناية فائقة بتقديم قصائدهم بقالب جميل الشكل غزير المضمون، وقام التنافس على أشده ولم يقعد بين كبار الشعراء الأمازيغ في مختلف المناطق التي يستوطنوها، بل إن التنافس وصل حد التراشق بالكلمات المصقولة أمام الجماهير في الأعراس والاحتفالات الطقوسية وفي مختلف التجمعات القبلية الأخرى.

مواصفات المقاول الناجح

ما دمت إنسانا يمتلك العقل والإرادة فأنت قادر على النجاح، لكن، يلزمك اتباع بعض أسس التفكير المنتج والذي من شأنه قيادة مشروعك لتحقيق النجاح. في هذه المحطة سنتحدث عن أهم مواصفات المقاول الناجح، بدونها يصبح المشروع مهددا بالانهيار في أي وقت، وهذه المواصفات هي كالآتي: 1- الثقة بالنفس: بدون الثقة في الذات يصعب عليك الإستمرار في بناء أي مشروع كيفما كان، فالثقة – هنا - عنصر هام لا محيد عنه في نجاح المشروع، والثقة ليست كِبرا ولا غرورا، بل هي الواقعية والالتزام في العمل وفق خطة محكمة معدة سلفا، كما أنها إيمان قوي بقدرة الذات على قيادة سفينة المشروع إلى بر الأمان رغم التحديات والعراقيل التي ستواجهك في الطريق. 2- الرغبة والقدرة: ونعني بـ"الرغبة" هنا توفر الإرادة الجامحة لإنجاح المشروع والتحفيز الذاتي المستمر والتفكير الإيجابي لحصد النتائج وتجاهل التسويف والمماطلة والتأجيلات. وأما "القدرة" فنعني بها القدرة على التعلم وشغف البحث والإطلاع في مصادر المعرفة المتنوعة والواسعة والتي من شأنها دعم معرفتنا وإغنائها لتزيد رؤيتنا وضوحا. فالمعرفة قوة والقدرة على تحصيل